فصل: بَابُ أَدَبِ الْقَاضِي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى



.بَابُ أَدَبِ الْقَاضِي:

الْأَدَبُ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالدَّالِ يُقَالُ أَدِبَ الرَّجُلُ بِكَسْرِ الدَّالِ وَضَمِّهَا لُغَةً إذَا صَارَ أَدِيبًا فِي خُلُقٍ أَوْ عِلْمٍ (وَهُوَ أَخْلَاقُهُ الَّتِي يَنْبَغِي لَهُ التَّخَلُّقُ بِهَا)، وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْبَابِ بَيَانُ مَا يَجِبُ عَلَى الْقَاضِي، أَوْ يُسَنُّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِنَفْسِهِ وَأَعْوَانِهِ مِنْ الْآدَابِ وَالْقَوَانِينِ (وَالْخُلُقُ) بِضَمِّ اللَّامِ (صُورَتُهُ الْبَاطِنَةُ) وَهِيَ نَفْسُهُ وَأَوْصَافَهَا وَمَعَانِيهَا، وَالثَّوَابُ وَالْعِقَابُ يَتَعَلَّقَانِ بِأَوْصَافِ الصُّورَةِ الظَّاهِرَةِ.
قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: حُسْنُ الْخُلُقِ اخْتِيَارُ الْفَضَائِلِ وَتَرْكُ الرَّذَائِلِ. (يُسَنُّ كَوْنُهُ) أَيْ: الْقَاضِي (قَوِيًّا بِلَا عُنْفٍ) لِئَلَّا يَطْمَعَ فِيهِ الظَّالِمُ، وَالْعُنْفُ ضِدُّ الرِّفْقِ (لَيِّنًا بِلَا ضَعْفٍ) لِئَلَّا يَهَابَهُ صَاحِبُ الْحَقِّ (حَلِيمًا) لِئَلَّا يَغْضَبَ مِنْ كَلَامِ الْخَصْمِ، فَيَمْنَعَهُ الْحُكْمَ (مُتَأَنِّيًا) مِنْ التَّأَنِّي، وَهُوَ ضِدُّ الْعَجَلَةِ؛ لِئَلَّا تُؤَدِّيَ عَجَلَتُهُ إلَى مَا لَا يَنْبَغِي (مُتَفَطِّنًا) لِئَلَّا يُخْدَعَ مِنْ بَعْضِ الْخُصُومِ لِغُرَّةٍ (عَفِيفًا) أَيْ: كَافًّا نَفْسَهُ عَنْ الْحَرَامِ، لِئَلَّا يَطْمَعَ فِي مَسْأَلَةٍ بِإِطْمَاعِهِ (وَرِعًا نَزِهًا) أَيْ: بَعِيدًا مِنْ الطَّمَعِ صَدُوقَ اللَّهْجَةِ، بَصِيرًا بِأَحْكَامِ الْحُكَّامِ قَبْلَهُ (يَخَافُ) اللَّهَ تَعَالَى وَيُرَاقِبُهُ. (لَا يُؤْتَى مِنْ غَفْلَةٍ، وَلَا يُخْدَعُ لِغُرَّةٍ) لِقَوْلِ عَلِيٍّ: لَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَكُونَ قَاضِيًا حَتَّى تَكْمُلَ فِيهِ خَمْسُ خِصَالٍ: عَفِيفٌ حَلِيمٌ عَالِمٌ بِمَا كَانَ قَبْلَهُ يَسْتَشِيرُ ذَوِي الْأَلْبَابِ لَا يَخَافُ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ (صَحِيحَ الْبَصَرِ وَالسَّمْعِ عَالِمًا بِلُغَاتِ أَهْلِ وِلَايَتِهِ) لِأَنَّ ذَلِكَ أَمْكَنُ فِي الْعَدْلِ بَيْنَهُمْ؛ لِأَنَّ الْمُتَرْجِمَ قَدْ يُخْفِي شَيْئًا مِنْ كَلَامِ أَحَدِهِمَا (لَا يَهْزِلُ) وَلَا يَمْجُنُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُخِلُّ بِهَيْبَتِهِ (ذَا رَأْيٍ وَمَشُورَةٍ) لِمَا تَقَدَّمَ عَنْ عَلِيٍّ (لِكَلَامِهِ لِينٌ إذَا قَرُبَ، وَهَيْبَةٌ إذَا أَوْعَدَ، وَوَفَاءٌ إذَا وَعَدَ) يُقَالُ وَعَدَ فِي الْخَيْرِ، وَأَوْعَدَ فِي ضِدِّهِ، هَذَا هُوَ الْأَصْلُ، وَيُسْتَعْمَلُ كُلٌّ مِنْهُمَا بِمَعْنَى الْآخَرِ، وَ(لَا) يَكُونُ (جَبَّارًا وَلَا عَسُوفًا) لِأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ الْمَعْقُودُ بِتَوْلِيَتِهِ مِنْ إيصَالِ الْحَقِّ لِمُسْتَحِقِّهِ. (وَسُنَّ سُؤَالُهُ إنْ وُلِّيَ فِي غَيْرِ بَلَدِهِ عَنْ عُلَمَائِهِ) يُشَاوِرُهُمْ فِي الْحَوَادِثِ، وَيَسْتَعِينُ بِهِمْ عَلَى قَضَائِهِ (وَعَنْ عُدُولِهِ) لِاسْتِنَادِ أَحْكَامِهِمْ إلَيْهِ، وَثُبُوتِ الْحُقُوقِ عِنْدَهُ بِهِمْ، فَيَقْبَلُ أَوْ يَرُدُّ مَنْ يَرَاهُ لِذَلِكَ أَهْلًا، وَيَكُونُ عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْهُمْ.
(وَ) يُسَنُّ (إعْلَامُهُمْ) بِأَنْ يَنْفُذَ عِنْدَ مَسِيرِهِ مَنْ يُعْلِمُهُمْ (بِيَوْمِ دُخُولِهِ الْبَلَدَ لِيَتَلَقَّوْهُ) لِأَنَّهُ أَوْقَعُ فِي النُّفُوسِ، وَأَعْظَمُ لِحِشْمَتِهِ (مِنْ غَيْرِ أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِتَلَقِّيهِ) لِأَنَّهُ أَنْسَبُ بِمَقَامِهِ، (وَ) يُسَنُّ (دُخُولُهُ يَوْمَ اثْنَيْنِ أَوْ يَوْمَ خَمِيسٍ أَوْ يَوْمَ سَبْتٍ) لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «دَخَلَ فِي الْهِجْرَةِ الْمَدِينَةَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَكَذَا مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَقَالَ: بُورِكَ لِأُمَّتِي فِي سَبْتِهَا وَخَمِيسِهَا». وَيَنْبَغِي أَنْ يَدْخُلَهَا (ضَحْوَةً) تَفَاؤُلًا لِاسْتِقْبَالِ الشَّهْرِ قَالَ فِي الْفُرُوعِ وَكَانَ اسْتِقْبَالُ الشَّهْرِ تَفَاؤُلًا كَأَوَّلِ النَّهَارِ، (لَابِسًا أَجْمَلَ ثِيَابِهِ) أَيْ: أَحْسَنَهَا؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى يُحِبُّ الْجَمَالَ، وَقَالَ: «خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ» لِأَنَّهَا مَجَامِعُ النَّاسِ، وَهُنَا يَجْتَمِعُ مَا لَا يَجْتَمِعُ فِي الْمَسَاجِدِ فَهُوَ أَوْلَى بِالزِّينَةِ (وَكَذَا أَصْحَابُهُ) لِأَنَّهُ أَعْظَمُ لَهُ وَلَهُمْ فِي النُّفُوسِ (وَلَا يَتَطَيَّرُ) أَيْ يَتَشَاءَمُ (وَإِنْ تَفَاءَلَ فَحَسَنٌ) لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُحِبُّ الْفَأْلَ الْحَسَنَ، وَيَنْهَى عَنْ الطِّيَرَةِ، (فَيَأْتِي الْجَامِعَ فَيُصَلِّي فِيهِ رَكْعَتَيْنِ) تَحِيَّتَهُ (وَيَجْلِسُ مُسْتَقْبِلًا) الْقِبْلَةَ؛ لِأَنَّ خَيْرَ الْمَجَالِسِ مَا اُسْتُقْبِلَ بِهِ الْقِبْلَةُ، (وَيَأْمُرُ الْقَاضِيَ بِعَهْدِهِ فَيَقْرَأُ عَلَى النَّاسِ) لِيَعْلَمُوا تَوْلِيَتَهُ وَاحْتِفَاظَ الْإِمَامِ عَلَى اتِّبَاعِ أَحْكَامِ الشَّرْعِ، وَقَدْرَ الْمُوَلَّى بِفَتْحِ اللَّامِ عِنْدَهُ، وَحُدُودَ وِلَايَتِهِ، وَمَا فُوِّضَ إلَيْهِ الْحُكْمُ فِيهِ، (وَيَأْمُرُ بِمَنْ يُنَادِيهِمْ بِيَوْمِ جُلُوسِهِ لِلْحُكْمِ) لِيَعْلَمَهُ مَنْ لَهُ حَاجَةٌ فَيَأْتِيَ فِيهِ (وَيُقِلُّ مِنْ كَلَامِهِ إلَّا لِحَاجَةٍ) لِلْكَلَامِ؛ لِأَنَّهُ أَهَيْبُ (ثُمَّ يَمْضِي إلَى مَنْزِلِهِ الَّذِي أُعِدَّ لَهُ) لِيَسْتَرِيحَ. (وَيُنْفِذُ) أَيْ: يَبْعَثُ ثِقَةً (فَيَتَسَلَّمُ دِيوَانَ الْحُكْمِ) بِكَسْرِ الدَّالِ، وَحُكِيَ فَتْحُهَا، وَهُوَ الدَّفْتَرُ الْمُعَدُّ لِكَتْبِ الْوَثَائِقِ وَالسِّجِلَّاتِ وَالْوَدَائِعِ (مِمَّنْ) كَانَ قَاضِيًا (قَبْلَهُ) لِأَنَّهُ الْأَسَاسُ الَّذِي يَنْبَنِي عَلَيْهِ وَهُوَ فِي يَدِ الْحَاكِمِ بِحُكْمِ الْوِلَايَةِ، وَقَدْ صَارَتْ إلَيْهِ (وَيَأْمُرُ كَاتِبًا ثِقَةً يُثْبِتُ مَا تَسَلَّمَهُ بِمَحْضَرٍ عَدْلَيْنِ) احْتِيَاطًا. (ثُمَّ يَخْرُجُ يَوْمَ الْوَعْدِ أَيْ:) الَّذِي وَعَدَ النَّاسَ بِالْجُلُوسِ فِيهِ لِلْحُكْمِ (بِأَعْدَلِ أَحْوَالِهِ غَيْرَ غَضْبَانَ وَلَا جَوْعَانَ وَلَا حَاقِنٍ وَلَا مَهْمُومٍ بِمَا يَشْغَلُهُ عَنْ الْفَهْمِ) لِأَنَّهُ أَجْمَعُ لِقَلْبِهِ وَأَبْلَغُ فِي تَيَقُّظِهِ لِلصَّوَابِ (فَيُسَلِّمُ عَلَى مَنْ يَمُرُّ بِهِ وَلَوْ صَبِيًّا) لِأَنَّهُ إمَّا رَاكِبٌ أَوْ مَاشٍ، وَالسُّنَّةُ، لِكُلٍّ مِنْهُمَا أَنْ يُسَلِّمَ عَلَى مَنْ يَمُرّ بِهِ، ثُمَّ يُسَلِّمُ (عَلَى مَنْ بِمَجْلِسِهِ) لِحَدِيثِ «إنَّ مِنْ حَقِّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يُسَلِّمَ عَلَيْهِ إذَا لَقِيَهُ» (وَيُصَلِّي إنْ كَانَ بِمَسْجِدٍ تَحِيَّتَهُ) إنْ لَمْ يَكُنْ وَقْتَ نَهْيٍ كَغَيْرِهِ (وَإِلَّا) يَكُنْ بِمَسْجِدٍ (خُيِّرَ) بَيْنَ الصَّلَاةِ وَتَرْكِهَا كَسَائِرِ الْمَجَالِسِ (وَالْأَفْضَلُ الصَّلَاةُ) لِيَنَالَ ثَوَابَهَا. (وَيَجْلِسُ عَلَى بِسَاطٍ وَنَحْوِهِ) يَخْتَصُّ بِهِ لِيَتَمَيَّزَ عَنْ جُلَسَائِهِ (وَلَا يَجْلِسُ عَلَى تُرَابٍ وَحُصُرِ مَسْجِدٍ؛ لِأَنَّهُ يُذْهِبُ هَيْبَتَهُ مِنْ أَعْيُنِ الْخُصُومِ) وَلِأَنَّهُ مَقَامٌ عَظِيمٌ يَجِبُ فِيهِ إظْهَارُ الْحُرْمَةِ تَعْظِيمًا لِلشَّرْعِ (وَيَدْعُو اللَّهَ تَعَالَى بِالتَّوْفِيقِ) لِلْحَقِّ وَالْعِصْمَةِ مِنْ زَلَلِ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ؛ لِأَنَّهُ مَقَامٌ خَطَرٌ، وَكَانَ مِنْ دُعَاءِ عُمَرَ: اللَّهُمَّ أَرِنِي الْحَقَّ حَقًّا، وَوَفِّقْنِي لِاتِّبَاعِهِ، وَأَرِنِي الْبَاطِلَ بَاطِلًا، وَوَفِّقْنِي لِاجْتِنَابِهِ (مُسْتَعِينًا) أَيْ: طَالِبًا الْمَعُونَةَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى (مُتَوَكِّلًا) أَيْ: مُفَوِّضًا أَمْرَهُ إلَيْهِ، وَلْيَكُنْ دُعَاؤُهُ سِرًّا؛ لِأَنَّهُ أَرْجَى لِلْإِجَابَةِ، وَأَبْعَدُ مِنْ الرِّيَاءِ. (وَلْيَكُنْ مَجْلِسُهُ) فِي مَوْضِعٍ (لَا يَتَأَذَّى فِيهِ بِشَيْءٍ) لِئَلَّا يَشْتَغِلَ بَالُهُ بِمَا يُؤْذِيهِ (فَسِيحًا كَجَامِعٍ؛ فَيَجُوزُ، وَلَا يُكْرَهُ الْقَضَاءُ فِيهِ) رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقْضُونَ فِي الْمَسْجِدِ، قَالَ مَالِكٌ: الْقَضَاءُ فِي الْمَسْجِدِ مِنْ أَمْرِ النَّاسِ الْقَدِيمِ، وَكَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَجْلِسُ فِي الْمَسْجِدِ مَعَ حَاجَةِ النَّاسِ إلَيْهِ فِي الْفُتْيَا وَالْحُكْمِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَوَائِجِ النَّاسِ، وَأَمَّا الْجُنُبُ فَيَغْتَسِلُ وَالْحَائِضُ تُوَكِّلُ أَوْ تَأْتِي الْقَاضِيَ فِي مَنْزِلِهِ (وَيَصُونُهُ)، أَيْ الْمَسْجِدَ (عَمَّا يُكْرَهُ) فِيهِ مِنْ نَحْوِ رَفْعِ صَوْتٍ (وَكَدَارٍ وَاسِعَةٍ وَسَطَ الْبَلَدِ إنْ أَمْكَنَ) تَسَاوِي أَهْلِ الْبَلَدِ فِي الْمُضِيِّ إلَيْهِ. (وَلَا يَتَّخِذُ حَاجِبًا وَلَا بَوَّابًا نَدْبًا بِلَا عُذْرٍ إلَّا فِي غَيْرِ مَجْلِسِ حُكْمٍ إنْ شَاءَ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْتَجِبَ إلَّا فِي أَوْقَاتِ الِاسْتِرَاحَةِ) لِحَدِيثِ عُمَرَ بْنِ مُرَّةَ مَرْفُوعًا: «مَا مِنْ إمَامٍ أَوْ وَالٍ يُغْلِقُ بَابَهُ دُونَ ذَوِي الْحَاجَاتِ وَالْخَلَّةِ وَالْمَسْكَنَةِ إلَّا أَغْلَقَ اللَّهُ أَبْوَابَ السَّمَاءِ دُونَ خَلَّتِهِ وَحَاجَتِهِ وَمَسْكَنَتِهِ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ. وَلِأَنَّهُمَا رُبَّمَا مَنَعَا ذَا الْحَاجَةِ لِغَرَضِ النَّفْسِ أَوْ غَرَضِ الْحُطَامِ. (وَيَعْرِضُ الْقِصَصَ) لِيَقْضِيَ حَوَائِجَ أَصْحَابِهَا (وَيَجِبُ تَقْدِيمُ سَابِقٍ كَسَبْقِهِ الْمُبَاحِ) وَفِي مَعْنَاهُ الْمُعَلِّمُ إذَا اجْتَمَعَ عِنْده الطَّلَبَةُ (وَيَتَّجِهُ، وَكَذَا) يَجِبُ تَقْدِيمُ سَابِقٍ إلَى (نَحْوِ مُسْتَحِمٍّ) كَمَعْصَرَةٍ وَمَدْبَغَةٍ (وَرَحَى وَبَيْتٍ خَلَاءٍ) وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ؛ فَلَا يَجُوزُ تَقْدِيمُ غَيْرِ صَاحِبِ النَّوْبَةِ عَلَيْهِ، وَهُوَ مُتَّجَهٌ وَلَا يُقَدِّمُ (سَابِقٍ فِي أَكْثَرَ مِنْ حُكُومَةٍ) لِئَلَّا يَسْتَوْعِبَ الْمَجْلِسَ فَيَضُرَّ غَيْرَهُ، وَإِنْ ادَّعَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَلَى الْمُدَّعِي حَكَمَ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُعْتَبَرُ الْأَوَّلُ فِي الدَّعْوَى، لَا فِي الْمُدَّعَى عَلَيْهِ (وَيُقْرِعُ بَيْنَهُمْ إنْ حَضَرُوا دَفْعَةً وَاحِدَةً وَتَشَاحُّوا) فِي التَّقْدِيمِ؛ لِأَنَّهُ لَا مُرَجِّحَ غَيْرَهَا. (وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَيْ: الْقَاضِي الْعَدْلُ بَيْنَ مُتَحَاكِمَيْنِ) تَرَافَعَا إلَيْهِ (فِي لَحْظِهِ) أَيْ: مُلَاحَظَتِهِ (وَلَفْظِهِ) أَيْ: كَلَامِهِ لَهُمَا (وَمَجْلِسِهِ وَدُخُولٍ عَلَيْهِ إلَّا إذَا سَلَّمَ أَحَدُهُمَا فَيَرُدُّ عَلَيْهِ، وَلَا يَنْتَظِرُ سَلَامَ الثَّانِي) لِوُجُوبِ الرَّدِّ فَوْرًا (وَإِلَّا الْمُسْلِمَ) إذَا تَرَافَعَ إلَيْهِ (مَعَ الْكَافِرِ فَيُقَدِّمُ الْمُسْلِمَ) عَلَيْهِ أَيْ: الْقَاضِي دُخُولًا (وَيَرْفَعُ فِي الْجُلُوسِ) لِحُرْمَةِ الْإِسْلَامِ.
قَالَ تَعَالَى: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ} وَدَلِيلُ وُجُوبِ الْعَدْلِ بَيْن الْخَصْمَيْنِ حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ أَبِي شَيْبَةَ فِي كِتَابِ الْقَضَاءِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ مَرْفُوعًا: «مَنْ اُبْتُلِيَ بِالْقَضَاءِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فَلْيَعْدِلْ بَيْنَهُمْ فِي لَفْظِهِ وَإِشَارَتِهِ وَمَقْصِدِهِ، وَلَا يَرْفَعَنَّ صَوْتَهُ عَلَى أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ وَلَا يَرْفَعُهُ عَلَى الْآخَرِ وَفِي رِوَايَةٍ: فَلْيُسَوِّ بَيْنَهُمْ فِي النَّظَرِ وَالْمَجْلِسِ وَالْإِشَارَةِ»، وَلِأَنَّهُ إذَا مَيَّزَ أَحَدَهُمَا حُصِرَ الْآخَرُ وَانْكَسَرَ فَرُبَّمَا لَمْ يَفْهَمْ حُجَّتُهُ؛ فَيُؤَدِّي ذَلِكَ إلَى ظُلْمِهِ، وَإِنْ أَذِنَ أَحَدُ الْخَصْمَيْنِ لِلْقَاضِي فِي رَفْعِ خَصْمِهِ عَلَيْهِ؛ جَازَ لِإِسْقَاطِ خَصْمِهِ حَقَّهُ بِإِذْنِهِ فِيهِ (وَلَا يُكْرَهُ قِيَامُهُ لِلْخَصْمَيْنِ) فَإِنْ قَامَ لِأَحَدِهِمَا؛ وَجَبَ أَنْ يَقُومَ لِلْآخَرِ. (وَيَحْرُمُ قِيَامُ الْقَاضِي لِأَحَدِهِمَا) أَيْ: أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ دُونَ الْآخَرِ، وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ (أَنْ يُسَارّهُ) لِمَا فِيهِ مِنْ كَسْرِ قَلْبِ صَاحِبِهِ، وَرُبَّمَا أَضْعَفَهُ ذَلِكَ عَنْ إقَامَةِ حُجَّتِهِ (أَوْ يُلَقِّنَهُ حُجَّتَهُ) لِأَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَعْدِلَ بَيْنَهُمَا، وَلِمَا فِيهِ مِنْ الضَّرَرِ عَلَى صَاحِبِهِ (أَوْ يُضَيِّفَهُ) إلَّا أَنْ يُضَيِّفَ خَصْمَهُ مَعَهُ؛ لِمَا رُوِيَ «عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ نَزَلَ بِهِ رَجُلٌ فَقَالَ: أَلَكَ خَصْمٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ تَحَوَّلْ عَنَّا؛ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: لَا تُضَيِّفُوا أَحَدَ الْخَصْمَيْنِ إلَّا وَمَعَهُ خَصْمُهُ». (أَوْ يُعَلِّمَهُ كَيْفَ يَدَّعِي) لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِعَانَةِ عَلَى خَصْمِهِ (إلَّا أَنْ يَتْرُكَ مَا يَلْزَمُ ذِكْرُهُ) فِي الدَّعْوَى (كَشَرْطِ عَقْدٍ وَسَبَبِ إرْثٍ وَنَحْوِهِ فَلَهُ أَنْ يَسْأَلَ عَنْهُ) ضَرُورَةَ تَحْرِيرِ الدَّعْوَى، وَلَا ضَرَرَ عَلَى صَاحِبِهِ فِي ذَلِكَ، وَأَكْثَرُ الْخُصُومِ لَا يَعْلَمُهُ، وَلْيَتَّضِحْ لِلْقَاضِي وَجْهُ الْحُكْمِ. (وَلَهُ) أَيْ: الْقَاضِي (أَنْ يَزِنَ) أَيْ: يَدْفَعَ عَنْ أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ لِلْخَصْمِ الْآخَرِ مَا ثَبَتَ عَلَيْهِ عِنْدَهُ، أَوْ يَتَحَمَّلَ عَنْهُ بَعْضَهُ؛ لِأَنَّ فِيهِ نَفْعًا لِخَصْمِهِ (وَلَهُ أَنْ يَشْفَعَ) لَهُ عِنْدَ خَصْمِهِ (لِيَضَعَ عَنْ خَصْمِهِ) وَيَكُونُ ذَلِكَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْحُكْمِ؛ لِأَنَّهَا شَفَاعَةٌ حَسَنَةٌ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا} , وَلِأَنَّ مُعَاذًا «أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَلَّمَهُ لِيُكَلِّمَ غُرَمَاءَهُ فَلَوْ تَرَكُوا لِأَحَدٍ لَتَرَكُوا مُعَاذًا لِأَجْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» رَوَاه سَعِيدٌ. وَنَقَلَ حَنْبَلٌ: «أَنَّ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ تَقَاضَى ابْنَ أَبِي حَدْرَدٍ دَيْنًا عَلَيْهِ؛ وَأَشَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ ضَعْ الشَّطْرَ مِنْ دَيْنِكَ. قَالَ: فَعَلْتُ, قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُمْ فَأَعْطِهِ».
قَالَ أَحْمَدُ: هَذَا حُكْمٌ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أَوْ) أَيْ: وَيَجُوزُ أَنْ (يُنْظِرَهُ) أَيْ: يُمْهِلَ الْمَدِينَ بِدَيْنِهِ؛ لِأَنَّهُ أَوْلَى بِالْجَوَازِ مِنْ الْوَضْعِ. وَ(لِلْقَاضِي أَنْ يُؤَدِّبَ خَصْمًا افْتَاتَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: حَكَمْتَ عَلَيَّ بِغَيْرِ الْحَقِّ، أَوْ ارْتَشَيْتَ وَنَحْوَهُ) كَ ظَلَمْتَنِي بِضَرْبٍ لَا يَزِيدُ عَلَى عَشَرَةٍ وَحَبْسٍ، وَأَنْ يَعْفُوَ عَنْهُ (وَلَوْ لَمْ يُثْبِتْ) افْتِيَاتُهُ عَلَيْهِ (بِبَيِّنَةٍ) لِأَنَّ فِي تَوَقُّفِهِ عَلَى الْإِثْبَاتِ حَرَجًا، وَرُبَّمَا يَكُونُ ذَرِيعَةً لِلِافْتِيَاتِ (وَلَهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُ) لِأَنَّهُ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى (وَلَهُ أَنْ يَنْتَهِرَهُ إذَا الْتَوَى) عَنْ الْحَقِّ لِئَلَّا يَطْمَعَ فِيهِ.

.فَصْلٌ: [ما يُسنُّ للقاضي]:

(وَيُسَنُّ لِقَاضٍ أَنْ يُحْضِرَ مَجْلِسَهُ فُقَهَاءَ الْمَذَاهِبِ وَمُشَاوَرَتُهُمْ فِيمَا يُشْكِلُ) إنْ أَمْكَنَ، وَسُؤَالُهُمْ إذَا حَدَثَتْ حَادِثَةٌ لِيَذْكُرُوا جَوَابَهُمْ وَأَدِلَّتَهُمْ فِيهَا؛ فَإِنَّهُ أَسْرَعُ لِاجْتِهَادِهِ وَأَقْرَبُ لِصَوَابِهِ، قَالَ تَعَالَى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} قَالَ الْحَسَنُ إنْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَغَنِيٌّ عَنْ مُشَاوَرَتِهِمْ، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنْ يَسْتَنَّ ذَلِكَ الْحَاكِمُ بَعْدَهُ.
(قَالَ) الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا وُلِّيَ سَعْدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ قَضَاءَ الْمَدِينَةِ كَانَ يَجْلِسُ بَيْنَ الْقَاسِمِ وَسَالِمٍ يُشَاوِرُهُمَا، وَوُلِّيَ مُحَارِبُ بْنُ دِثَارٍ قَضَاءَ الْكُوفَةِ، فَكَانَ يَجْلِسُ بَيْنَ الْحَكَمِ وَحَمَّادٍ يُشَاوِرُهُمَا (مَا أَحْسَنَهُ لَوْ فَعَلَهُ الْحُكَّامُ يُشَاوِرُونَ وَيَنْظُرُونَ)، فَإِنْ اتَّضَحَ لَهُ الْحُكْمُ حَكَمَ بِاجْتِهَادِهِ فَوْرًا وَلَا: اعْتِرَاضَ عَلَيْهِ (وَإِلَّا) يَتَّضِحُ لَهُ الْحُكْمُ أَخَّرَهُ حَتَّى يَتَّضِحَ لَهُ الْحَقُّ؛ فَيَحْكُمَ بِهِ. (وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ) إنْ كَانَ مُجْتَهِدًا (تَقْلِيدُ غَيْرِهِ وَلَوْ أَعْلَمَ مِنْهُ) لِأَنَّ الْمُجْتَهِدَ لَا يَجُوزُ لَهُ التَّقْلِيدُ. نَقَلَ ابْنُ الْحَكَمِ: عَلَيْهِ أَنْ يَجْتَهِدَ.
قَالَ عُمَرُ: وَاَللَّهِ مَا يَدْرِي عُمَرُ أَصَابَ الْحَقَّ أَمْ أَخْطَأَ، وَلَوْ كَانَ حَكَمَ بِحُكْمٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَقُلْ هَذَا.
(قَالَ) الْإِمَامُ أَحْمَدُ (لَا تُقَلِّدْ أُمُورَك أَحَدًا غَيْرَكَ وَعَلَيْكَ بِالْأَثَرِ) وَقَالَ لِلْفَضْلِ بْنِ زِيَادٍ: لَا تُقَلِّدْ دِينَكَ الرِّجَالَ؛ فَإِنَّهُمْ لَنْ يَسْلَمُوا أَنْ يَغْلَطُوا (فَإِنْ حَكَمَ بِاجْتِهَادِهِ لَمْ يُعْتَرَضْ عَلَيْهِ) لِأَنَّ فِي ذَلِكَ افْتِيَاتًا عَلَيْهِ (إلَّا إنْ خَالَفَ نَصًّا) مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ، وَظَاهِرُهُ وَلَوْ آحَادًا (أَوْ إجْمَاعًا) لِوُجُوبِ إنْكَارِهِ وَنَقْضِ حُكْمِهِ بِهِ. (وَلَوْ حَكَمَ وَلَمْ يَجْتَهِدْ؛ لَمْ يَصِحَّ حُكْمُهُ، وَلَوْ أَصَابَ الْحَقَّ) إنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ. (وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَهُوَ غَضْبَانُ كَثِيرًا) لِخَبَرِ أَبِي بَكْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَقْضِيَنَّ حَاكِمٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلِأَنَّهُ رُبَّمَا حَمَلَهُ الْغَضَبُ عَلَى الْجَوْرِ فِي الْحُكْمِ، بِخِلَافِ غَضَبٍ يَسِيرٍ لَا يَمْنَعُ فَهْمَ الْحُكْمِ هُوَ (أَوْ حَاقِنٌ) أَوْ حَاقِبٌ (أَوْ فِي شِدَّةِ جُوعٍ أَوْ عَطَشٍ أَوْ هَمٍّ أَوْ مَلَلٍ أَوْ كَسَلٍ أَوْ نُعَاسٍ أَوْ بَرْدٍ مُؤْلِمٍ أَوْ حَرٍّ مُزْعِجٍ) أَوْ تَوَقَانِ جِمَاعٍ أَوْ شِدَّةِ (مَرَضٍ أَوْ خَوْفٍ أَوْ فَزَعٍ) غَالِبٍ أَوْ حُزْنٍ، قِيَاسًا عَلَى الْغَضَبِ؛ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ حُضُورَ الْقَلْبِ وَاسْتِيفَاءَ الْفِكْرِ الَّذِي يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى إصَابَةِ الْحَقِّ فِي الْغَالِبِ؛ فَهُوَ فِي مَعْنَى الْغَضَبِ (فَإِنْ خَالَفَ الْقَاضِي، وَحَكَمَ) فِي حَالٍّ مِنْ تِلْكَ الْأَحْوَالِ فَأَصَابَ الْحَقَّ نَفَذَ حُكْمُهُ؛ وَإِلَّا لَمْ يَنْفُذْ. (وَكَانَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقَضَاءُ مَعَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ غَلَطٌ يُقِرُّ عَلَيْهِ لَا قَوْلًا وَلَا فِعْلًا فِي حُكْمٍ) وَتَقَدَّمَ فِي الْخَصَائِصِ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِنْ الْأُمَّةِ، وَقَوْلُهُ: فِي حُكْمٍ احْتِرَازٌ عَمَّا وَقَعَ «لَمَّا مَرَّ بِقَوْمٍ يُلَقِّحُونَ، فَقَالَ: لَوْ لَمْ تَفْعَلُوا لَصَلُحَ حَالُهُ، فَخَرَجَ شِيصًا، فَمَرَّ بِهِمْ فَقَالَ: مَا لِنَخْلِكُمْ؟ قَالُوا قُلْتَ كَذَا وَكَذَا قَالَ: أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ» رَوَاه مُسْلِمٌ عَنْ عَائِشَةَ. (وَيَحْرُمُ) عَلَى الْحَاكِمِ (قَبُولُهُ رِشْوَةً) بِتَثْلِيثِ الرَّاءِ؛ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّاشِيَ وَالْمُرْتَشِيَ».
قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَرَوَاهُ أَبُو بَكْرٍ فِي زَادِ الْمُسَافِرِ وَزَادَ: وَالرَّائِشَ وَهُوَ السَّفِيرُ بَيْنَهُمَا، وَالرِّشْوَةُ: مَا يُعْطَى بَعْدَ طَلَبِهِ لَهَا، وَيَحْرُمُ (بَذْلُهَا) مِنْ الرَّاشِي لِيَحْكُمَ لَهُ بِبَاطِلٍ، أَوْ يَدْفَعَ عَنْهُ حَقَّهُ إلَّا أَنْ يَبْذُلَهَا (لِدَفْعِ ظُلْمِهِ) وَإِبْرَائِهِ عَلَى وَاجِبِهِ؛ فَلَا بَأْسَ بِهِ فِي حَقِّهِ.
قَالَ عَطَاءٌ وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ وَالْحَسَنُ: لَا بَأْسَ أَنْ يُصَانِعَ عَنْ نَفْسِهِ وَلِأَنَّهُ يَسْتَفِيدُ مَا لَهُ كَمَا يَسْتَفِيدَ الرَّجُلُ أَسِيرَهُ. (وَكَذَا) يَحْرُمُ عَلَى حَاكِمٍ قَبُولُ (هَدِيَّةٍ) لِمَا رَوَى أَبُو سَعِيدٍ قَالَ: «بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا مِنْ الْأَزْدِ يُقَالُ لَهُ ابْنُ اللُّتْبِيَّةِ عَلَى الصَّدَقَةِ، فَقَالَ: هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ إلَيَّ، فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: مَا بَالُ الْعَامِلِ نَبْعَثُهُ فَيَجِيءُ فَيَقُولُ: هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ إلَيَّ، أَلَا جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ فَيَنْظُرُ أَيُهْدَى إلَيْهِ أَمْ لَا، وَاَلَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَا نَبْعَثُ أَحَدًا مِنْكُمْ فَيَأْخُذُ شَيْئًا إلَّا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى رَقَبَتِهِ إنْ كَانَ بَعِيرًا لَهُ رُغَاءٌ، أَوْ بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ، أَوْ شَاةً تَيْعَرُ، ثُمَّ رَفَعَ يَدَهُ حَتَّى رَأَيْتُ عُفْرَةَ إبْطَيْهِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ بَلَّغْتُ ثَلَاثًا» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَقَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ قَرَأْتُ فِيمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى أَنْبِيَائِهِ: الْهَدِيَّةُ تَفْقَأُ عَيْنَ الْحُكْمِ. وَظَاهِرُهُ (وَلَوْ) أُهْدِيَتْ إلَيْهِ (فِي غَيْرِ عَمَلِهِ) لِأَنَّ الْقَصْدَ بِهَا اسْتِمَالَةُ الْحَاكِمِ لِيَعْتَنِيَ بِهِ فِي الْحُكْمِ فَتُشْبِهُ الرِّشْوَةَ (إلَّا مِمَّنْ كَانَ يُهَادِيهِ قَبْلَ وِلَايَتِهِ إذَا لَمْ تَكُنْ لَهُ حُكُومَةٌ، فَيُبَاحُ) لَهُ أَخْذُهَا لِانْتِفَاءِ التُّهْمَةِ إذَنْ، كَمَا لَوْ كَانَتْ الْهَدِيَّةُ مِنْ (ذِي رَحِمِهِ) الْمَحْرَمِ مِنْهُ، كَمَا لَوْ كَانَ مِنْ عَمُودَيْ نَسَبِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَحْكُمَ لَهُ.
قَالَ الْقَاضِي: لَا يَنْبَغِي أَنْ يَقْبَلَ هَدِيَّةً إلَّا مِنْ صَدِيقٍ كَانَ يُلَاطِفُهُ أَوْ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ بَعْدَ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ خَصْمٌ (وَكَمُفْتٍ) فَلَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ قَبُولُ الْهَدِيَّةِ وَهِيَ الدَّفْعُ إلَيْهِ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ طَلَبٍ (وَرَدُّهَا)؛ أَيْ: رَدُّ الْقَاضِي الْهَدِيَّةَ حَيْثُ جَازَ لَهُ أَخْذُهَا (أَوْلَى) لِأَنَّهُ لَا يَأْمَنُ أَنْ يَكُونَ لِحُكُومَةٍ مُنْتَظَرَةٍ (فَإِنْ خَالَفَ) الْحَاكِمُ فَأَخَذَ الرِّشْوَةَ أَوْ الْهَدِيَّةَ (حَيْثُ حُرِّمَ) أَخْذُهُمَا (رُدَّتَا لِمُعْطٍ) لِأَنَّهُ أَخَذَهُمَا بِغَيْرِ حَقٍّ كَالْمَأْخُوذِ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ (وَاسْتِعَارَتُهُ) أَيْ: الْقَاضِي مِنْ غَيْرِهِ (كَالْهَدِيَّةِ) لِأَنَّ الْمَنَافِعَ كَالْأَعْيَانِ (وَكَذَا لَوْ خَتَنَ وَلَدَهُ) وَنَحْوَهُ (فَأَهْدَى لِوَلَدِهِ) وَلَوْ قُلْنَا إنَّهَا لِلْوَلَدِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ وَسِيلَةٌ إلَى الرِّشْوَةِ، فَإِنْ تَصَدَّقَ عَلَيْهِ فَالْأَوْلَى أَنَّهُ كَالْهَدِيَّةِ عَلَى التَّفْصِيلِ. السَّابِقِ (وَإِنْ أَهْدَى لِمَنْ يَشْفَعُ لَهُ عِنْدَ السُّلْطَانِ وَنَحْوِهِ) مِنْ أَرْبَابِ الْوِلَايَةِ (لَمْ يَجُزْ) لِلشَّافِعِ (أَخْذُهَا) لِيَشْفَعَ لَهُ أَنْ يَرْفَعَ عَنْهُ مَظْلَمَةٌ، أَوْ يُوَصِّلَ إلَيْهِ حَقَّهُ، أَوْ يُوَلِّيَهُ وِلَايَةً يَسْتَحِقُّهَا، أَوْ يَسْتَخْدِمَهُ فِي الْجُنْدِ الْمُقَاتِلَةِ، وَهُوَ مُسْتَحِقٌّ لِذَلِكَ (لِأَنَّهَا) أَيْ: الْهَدِيَّةَ لِلشَّافِعِ (كَالْأُجْرَةِ وَالشَّفَاعَةُ مِنْ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ) فَيَحْرُمُ أَخْذُ شَيْءٍ فِي مُقَابَلَتِهَا. وَيَجُوزُ لِلْمُهْدِي أَنْ يَبْذُلَ فِي ذَلِكَ مَا يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى أَخْذِ حَقِّهِ، أَوْ دَفْعِ الظُّلْمِ عَنْهُ، وَهُوَ الْمَنْقُولُ عَنْ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ الْأَكَابِرِ، وَفِيهِ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ، قَالَهُ فِي الِاخْتِيَارَاتِ.
(وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ) فِيمَنْ وَلِيَ شَيْئًا مِنْ أَمْرِ السُّلْطَانِ: لَا أُجِيزُ لَهُ أَنْ يَقْبَلَ شَيْئًا، يُرْوَى: هَدَايَا الْأُمَرَاءِ غُلُولٌ وَالْحَاكِمُ خَاصَّةً لَا أُحِبُّ لَهُ إلَّا مِمَّنْ كَانَ لَهُ بِهِ خَلْطَةٌ وَوَصْلَةٌ وَمُكَافَأَةٌ قَبْلَ أَنْ يَلِيَ. انْتَهَى.
(وَنَصَّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَيْضًا فِيمَنْ عِنْدَهُ وَدِيعَةٌ فَأَدَّاهَا فَأُهْدِيَتْ لَهُ هَدِيَّةٌ أَنَّهُ لَا يَقْبَلُهَا إلَّا بِنِيَّةِ الْمُكَافَأَةِ) وَمِثْلُهُ دَفْعُ رَبِّ اللُّقَطَةِ لِوَاجِدِهَا عِنْدَ رَدِّهَا إلَيْهِ شَيْئًا مِنْهَا، وَتَقَدَّمَ فِي الْجَعَالَةِ. (وَيُكْرَهُ بَيْعُهُ) أَيْ: الْقَاضِي (وَشِرَاؤُهُ إلَّا بِوَكِيلٍ لَا يُعْرَفُ بِهِ) أَيْ: أَنَّهُ وَكِيلُهُ؛ لِئَلَّا يُحَابَى، وَالْمُحَابَاةُ كَالْهَدِيَّةِ، وَلَا يُكْرَهُ ذَلِكَ لِمُفْتٍ- وَلَوْ فِي مَجْلِسِ فَتْوَاهُ- لِأَنَّهُ لَا يُكْرَهُ لَهُ قَبُولُ الْهَدِيَّةِ فَلَا يَضُرُّهُ أَنْ يُحَابِيَ (فَلَيْسَ لَهُ) أَيْ: الْقَاضِي (وَلَا لِوَالٍ أَنْ يَتَّجِرَ بِنَفْسِهِ) لِمَا رَوَى أَبُو الْأَسْوَدِ الْمَالِكِيُّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ مَرْفُوعًا «مَا عَدَلَ وَالٍ اتَّجَرَ فِي رَعِيَّتِهِ أَبَدًا». وَإِنْ احْتَاجَ إلَى التِّجَارَةِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَا يَكْفِيهِ؛ لَمْ يُكْرَهْ لَهُ؛ لِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَصَدَ السُّوقَ لِيَتَّجِرَ فِيهِ حَتَّى فَرَضُوا لَهُ مَالًا يَكْفِيهِ، وَلِوُجُوبِ الْقِيَامِ بِعِيَالِهِ؛ فَلَا يَتْرُكْهُ لِوَهْمِ مَضَرَّةٍ. (وَتُسَنُّ لَهُ) أَيْ: الْقَاضِي (عِيَادَةُ الْمَرْضَى وَشَهَادَةُ الْجَنَائِزِ وَتَوْدِيعُ غَازٍ وَحَاجٍّ، مَا لَمْ يَشْغَلْهُ) ذَلِكَ عَنْ الْحُكْمِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْقُرَبِ، وَفِيهِ أَجْرٌ عَظِيمٌ، وَلَهُ حُضُورُ بَعْضِ ذَلِكَ وَتَرْكُ بَعْضِهِ، لِأَنَّهُ يَفْعَلُهُ لِنَفْعِ نَفْسِهِ بِتَحْصِيلِ الْأَجْرِ وَالْقُرْبَةِ، بِخِلَافِ الْوَلَائِمِ؛ فَإِنَّهُ يُرَاعِي فِيهَا حَقَّ الدَّاعِي؛ فَيَنْكَسِرُ فِيهَا قَلْبُ مِنْ لَمْ يُجِبْهُ إنْ أَجَابَ غَيْرَهُ (وَهُوَ) أَيْ: الْقَاضِي (فِي دَعَوَاتٍ) إلَى الْوَلَائِمِ (كَغَيْرِهِ) لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يَحْضُرُهَا، وَأَمَرَ بِحُضُورِهَا، وَقَالَ: «مَنْ لَمْ يُجِبْ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ». وَمَتَى كَثُرَتْ وَازْدَحَمَتْ تَرَكَهَا كُلَّهَا. (وَيُتَّجَهُ وَحُكْمُ ضِيَافَةٍ خُصَّ بِهَا) الْقَاضِي كَحُكْمِ (هَدِيَّةٍ) وَتَقَدَّمَ آنِفًا، وَهُوَ مُتَّجَهٌ. (وَلَا يُجِيبُ قَوْمًا وَيَدَعُ قَوْمًا بِلَا عُذْرٍ) لِمَا تَقَدَّمَ، فَإِنْ كَانَ فِي بَعْضِهَا عُذْرٌ كَمُنْكَرٍ أَوْ بُعْدِ مَكَان أَوْ اشْتِغَالٍ زَمَنًا طَوِيلًا دُونَ الْأُخْرَى أَجَابَ مَنْ لَا عُذْرَ لَهُ فِي تَرْكِهَا. (وَيُوصِي الْقَاضِي نَفْسَهُ وُجُوبًا ثُمَّ الْوُكَلَاءَ وَالْأَعْوَانَ بِبَابِهِ بِالرِّفْقِ بِالْخُصُومِ وَقِلَّةِ الطَّمَعِ) لِئَلَّا يَضُرَّ النَّاسَ، (وَيَجْتَهِدُ أَنْ يَكُونُوا شُيُوخًا أَوْ كُهُولًا مِنْ أَهْلِ الدِّينِ وَالْعِفَّةِ وَالصِّيَانَةِ) لِيَكُونُوا أَقَلَّ شَرًّا، فَإِنَّ الشَّبَابَ شُعْبَةٌ مِنْ الْجُنُونِ، وَالْحَاكِمُ تَأْتِيهِ النِّسَاءُ وَفِي اجْتِمَاعِ الشَّبَابِ بِهِنَّ مَفْسَدَةٌ. (وَيُبَاحُ) لِقَاضٍ قَالَ فِي الْمُبْدِعِ وَالْأَشْهَرُ يُسَنُّ لَهُ (أَنْ يَتَّخِذَ كَاتِبًا) لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «اسْتَكْتَبَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ وَمُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ وَغَيْرَهُمَا»، وَلِكَثْرَةِ اشْتِغَالِ الْحَاكِمِ وَنَظَرِهِ فِي أَمْرِ النَّاسِ؛ فَلَا يُمْكِنُهُ تَوَلِّي الْكِتَابَةِ بِنَفْسِهِ. (وَيُشْتَرَطُ كَوْنُهُ) أَيْ: كَاتِبِ الْقَاضِي (مُسْلِمًا) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا} وَقَالَ عُمَرُ: لَا تُؤَمِّنُوهُمْ وَقَدْ خَوَّنَهُمْ اللَّهُ، وَلَا تُقَرِّبُوهُمْ وَقَدْ أَبْعَدَهُمْ اللَّهُ، وَلَا تُعِزُّوهُمْ وَقَدْ أَذَلَّهُمْ اللَّهُ (عَدْلًا) لِأَنَّهُ مَوْضِعُ أَمَانَةٍ (وَسُنَّ كَوْنُهُ حَافِظًا عَالِمًا) لِأَنَّ فِيهِ إعَانَةً عَلَى أَمْرِهِ (فَقِيهًا أَمِينًا حُرًّا) خُرُوجًا مِنْ الْخِلَافِ (وَرِعًا نَزِهًا لَا يُسْتَمَالُ بِهَدِيَّةٍ) لِئَلَّا يُخْدَعَ (جَيِّدَ الْخَطِّ لَا يَشْتَبِهُ عَلَيْهِ سَبْعَةٌ بِتِسْعَةٍ، صَحِيحَ الضَّبْطِ) لِئَلَّا يُفْسِدَ مَا يَكْتُبُهُ بِجَهْلِهِ (وَيَجْلِسُ الْكَاتِبُ بِحَيْثُ يُشَاهِدُ الْقَاضِي مَا يَكْتُبُهُ) لِأَنَّهُ أَبْعَدُ لِلتُّهْمَةِ، وَأَمْكَنُ لِإِمْلَائِهِ عَلَيْهِ، وَإِنْ قَعَدَ نَاحِيَةً جَازَ؛ لِأَنَّ مَا يَكْتُبُهُ يُعْرَضُ عَلَى الْقَاضِي (وَيُسْتَحَبُّ كَوْنُهُ) أَيْ: الْكَاتِبِ (بَيْنَ يَدَيْهِ) أَيْ: الْقَاضِي، لَيُشَافِهَهُ (بِمَا يُمْلِي عَلَيْهِ) لِأَنَّهُ أَنْفَى لِلتُّهْمَةِ كَمَا تَقَدَّمَ (وَإِنْ تَوَلَّى الْقَاضِي الْكِتَابَةَ بِنَفْسِهِ جَازَ) وَالْأَوْلَى الِاسْتِنَابَةُ (وَيَجْعَلُ الْقَاضِي الْقِمَطْرَ) بِكَسْرِ الْقَافِ وَفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ أَعْجَمِيٌّ مُعَرَّبٌ (وَهُوَ مَا يُجْمَعُ فِيهِ الْقَضَايَا؛ مَخْتُومًا بَيْنَ يَدَيْهِ) لِيُنَزِّلَ فِيهِ مَا يَجْتَمِعُ مِنْ الْمَحَاضِرِ وَالسِّجِلَّاتِ لِأَنَّهُ أَحْفَظُ لَهُ مِنْ أَنْ يُغَيَّرَ. (وَسُنَّ حُكْمُهُ بِحَضْرَةِ شُهُودٍ) بِحَيْثُ (يَسْمَعُونَ كَلَامَ الْمُتَحَاكِمَيْنِ) لِيَسْتَوْفِيَ بِهِمْ الْحُقُوقَ وَتَثْبُتَ بِهِمْ الْحِجَجُ وَالْمَحَاضِرُ. (وَيَحْرُمُ) عَلَى قَاضٍ (تَعْيِينُهُ قَوْمًا بِالْقَبُولِ) أَيْ: قَبُولِ الشَّهَادَةِ بِحَيْثُ لَا يَقْبَلُ غَيْرَهُمْ؛ لِوُجُوبِ قَبُولِ شَهَادَةِ مَنْ ثَبَتَتْ عَدَالَتُهُ (لَكِنْ لَهُ أَنْ يُرَتِّبَ شُهُودًا يَشْهَدُهُمْ النَّاسُ يَسْتَغْنُونَ بِإِشْهَادِهِمْ عَنْ تَعْدِيلِهِمْ) (وَيَسْتَغْنِي الْحَاكِمُ عَنْ الْكَشْفِ عَنْ أَحْوَالِهِمْ) لِأَنَّ فِيهِ رِفْقًا بِالنَّاسِ (وَلَيْسَ لَهُ) أَيْ: الْقَاضِي (مَنْعُ الْفُقَهَاءِ مِنْ عَقْدِ عُقُودٍ وَكِتَابَةِ حِجَجٍ) أَيْ: الْإِشْهَادَاتِ (وَمَا يَتَعَلَّقُ بِأُمُورِ الشَّرْعِ مِمَّا أَبَاحَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ إذَا كَانَ الْكَاتِبُ فَقِيهًا) عَالِمًا بِأُمُورِ الشَّرْعِ وَشُرُوطِ الْعَقْدِ (كَأَنْ يُزَوِّجَ الْمَرْأَةَ وَلِيُّهَا بِحَضْرَةِ شَاهِدَيْنِ؛ فَيَكْتُبُ كَاتِبٌ عَقْدَهَا، أَوْ يَكْتُبُ رَجُلٌ عَقْدَ بَيْعٍ أَوْ إجَارَةٍ أَوْ إقْرَارٍ) أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ (أَوْ كَانَ ذَلِكَ حِرْفَةَ الْكَاتِبِ) يَرْتَزِقُ بِهَا (فَإِنْ مَنَعَ الْقَاضِي ذَلِكَ حَرُمَ) لِأَنَّهُ مِنْ الْمَكْسِ نَظِيرُ مَنْ يَسْتَأْجِرُ حَانُوتًا مِنْ حَاكِمِ الْقَرْيَةِ عَلَى أَنْ لَا يَبِيعَ غَيْرَهُ فِي تِلْكَ الْقَرْيَةِ، وَإِنْ كَانَ الْقَاضِي يُرِيدُ مَنْعَ الْجَاهِلِينَ؛ لِئَلَّا يَعْقِدَ عَقْدًا فَاسِدًا؛ فَالطَّرِيقُ أَنْ يَفْعَلَ كَمَا فَعَلَ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ بِتَعْزِيرِ مَنْ يَعْقِدُ نِكَاحًا فَاسِدًا، كَمَا فَعَلَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِيمَنْ تَزَوَّجَ بِغَيْرِ وَلِيٍّ، وَفِيمَنْ تَزَوَّجَ فِي الْعِدَّةِ. (وَلَا يَصِحُّ، وَلَا يَنْفُذُ حُكْمُهُ) أَيْ: الْقَاضِي (عَلَى عَدُوِّهِ) كَالشَّهَادَةِ عَلَيْهِ (وَلَا لِنَفْسِهِ) لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ لَهَا، وَيَتَحَاكَمُ هُوَ وَخَصْمُهُ إلَى قَاضٍ آخَرَ أَوْ بَعْضِ خُلَفَائِهِ؛ لِأَنَّ عُمَرَ حَاكَمَ أُبَيًّا إلَى زَيْدٍ، وَحَاكَمَ عُثْمَانُ طَلْحَةَ إلَى جُبَيْرٍ (وَلَا لِمَنْ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ) كَزَوْجَتِهِ وَعَمُودَيْ نَسَبِهِ كَالشَّهَادَةِ وَلَوْ كَانَتْ الْخُصُومَةُ بَيْنَ وَالِدَيْهِ، أَوْ بَيْنَ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ، لِعَدَمِ قَبُولِ شَهَادَتِهِ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، وَلِلْقَاضِي الْحُكْمُ عَلَى مَنْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لَهُ كَأَبِيهِ وَوَلَدِهِ كَشَهَادَتِهِ عَلَيْهِ (وَيُحَكِّمُ بَيْنَهُمْ بَعْضَ نُوَّابِهِ) أَوْ بَعْضَ رَعِيَّتِهِ؛ لِزَوَالِ التُّهْمَةِ (وَلَهُ اسْتِخْلَافُهُمْ) أَيْ: لِلْقَاضِي اسْتِنَابَةُ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَنَحْوِهِمَا عَنْهُ فِي الْحُكْمِ مَعَ صَلَاحِيَّتِهِمْ كَغَيْرِهِمْ (كَحُكْمِهِ لِغَيْرِهِمْ) أَيْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ لِغَيْرِ مَنْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لَهُمْ (بِشَهَادَتِهِمْ) كَأَنْ حَكَمَ عَلَى أَجْنَبِيٍّ بِشَهَادَةِ أَبِيهِ وَابْنِهِ، وَكَحُكْمِهِ (عَلَيْهِمْ) أَيْ: عَلَى مَنْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لَهُ؛ فَيَصِحُّ حُكْمُهُ عَلَى أَبِيهِ وَابْنِهِ وَزَوْجَتِهِ وَنَحْوِهِمْ كَشَهَادَتِهِ عَلَيْهِمْ.

.فَصْلٌ: [نَظَرُ الْقَاضي فِي أَمْرِ الْمَحْبُوسِينَ]:

(وَيُسَنُّ لِقَاضٍ أَنْ يَبْدَأَ) بِالنَّظَرِ فِي أَمْرِ (الْمَحْبُوسِينَ) لِأَنَّ الْحَبْسَ عَذَابٌ وَرُبَّمَا كَانَ فِيهِمْ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ الْبَقَاءَ فِيهِ (فَيَنْفُذُ ثِقَةً) إلَى الْحَبْسِ (يَكْتُبُ أَسْمَاءَهُمْ وَأَسْمَاءَ مَنْ حَبَسَهُمْ، وَفِيمَ ذَلِكَ) أَيْ: حَبَسَهُمْ كُلُّ وَاحِدٍ فِي رُقْعَةٍ مُنْفَرِدَةٍ؛ لِئَلَّا يَتَكَرَّرَ النَّظَرُ فِي حَالِ الْأَوَّلِ لَوْ كُتِبُوا فِي رُقْعَةٍ وَاحِدَةٍ، وَيُخْرِجُ وَاحِدَةً مِنْ الرِّقَاعِ بِالِاتِّفَاقِ كَالْقُرْعَةِ (ثُمَّ يُنَادِي فِي الْبَلَدِ أَنَّهُ) أَيْ: الْقَاضِي (يَنْظُرُ فِي أَمْرِهِمْ) أَيْ: الْمَحْبُوسِينَ فِي يَوْمِ كَذَا، فَمَنْ لَهُ خَصْمٌ مَحْبُوسٌ فَلْيَحْضُرْ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَقْرَبُ لِحُضُورِهِمْ مِنْ التَّفْتِيشِ عَلَيْهِمْ (فَإِذَا جَلَسَ الْقَاضِي لِمَوْعِدِهِ) نَظَرَ ابْتِدَاءً فِي رِقَاعِ الْمَحْبُوسِينَ، فَيُخْرِجُ رُقْعَةً مِنْهَا، وَيُقَالُ هَذِهِ رُقْعَةُ فُلَانٍ فَمَنْ خَصْمُهُ (فَمَنْ حَضَرَ لَهُ خَصْمٌ نَظَرَ بَيْنَهُمَا)، فَإِنْ كَانَ الْمَحْبُوسُ (حُبِسَ لِتُعَدَّلَ بِهِ الْبَيِّنَةُ) أَيْ: بَيِّنَةُ خَصْمِهِ عَلَيْهِ (حُبِسَ)؛ أُعِيدَ إلَى الْحَبْسِ ثَانِيًا، وَيُقْبَلُ قَوْلُ خَصْمِهِ الْمَحْبُوسِ فِي أَنَّهُ أَيْ: الْقَاضِي إنَّمَا حَبَسَهُ (بَعْدَ تَكْمِيلِ بَيِّنَتِهِ وَبَعْدَ تَعْدِيلِهَا) لِأَنَّهُ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ، وَإِنْ ذَكَرَ أَنَّهُ حُبِسَ (بِقِيمَةِ كَلْبٍ) وَلَوْ مُعَلَّمِ الصَّيْدِ (أَوْ خَمْرِ ذِمِّيٍّ وَصَدَّقَهُ غَرِيمُهُ) فِي ذَلِكَ خُلِّيَ سَبِيلُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا دَيْنَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَذَّبَهُ غَرِيمُهُ، وَقَالَ: بَلْ بِحَقٍّ وَاجِبٍ غَيْرِ هَذَا؛ فَقَوْلُهُ؛ لِأَنَّهُ الظَّاهِرُ. (وَيُتَّجَهُ) أَنَّهُ يُخَلَّى سَبِيلُهُ (مَا لَمْ يُحْكَمْ بِهِ) أَيْ: حَبْسِهِ عَلَى ثَمَنِ ذَلِكَ مَنْ يَرَاهُ فَإِنْ حَكَمَ بِقِيمَةِ كَلْبِ الصَّيْدِ أَوْ ثَمَنِ خَمْرِ الذِّمِّيِّ، أَوْ الْحَلَالِ (مَنْ يَرَاهُ) أُعِيدَ إلَى الْحَبْسِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا حُبِسَ بِحَقٍّ، وَهُوَ مُتَّجِهُ. (وَإِنْ بَانَ حَبْسُهُ فِي تُهْمَةٍ أَوْ تَعْزِيرٍ كَافْتِيَاتٍ عَلَى قَاضٍ قَبْلَهُ وَنَحْوِهِ) كَكَوْنِهِ عَائِنًا (خَلَّاهُ) أَيْ: أَطْلَقَهُ (أَوْ أَبْقَاهُ) فِي الْحَبْسِ (بِقَدْرِ مَا يَرَى) بِحَسَبِ اجْتِهَادِهِ؛ لِأَنَّ التَّعْزِيرَ مُفَوَّضٌ إلَى رَأْيِهِ (فَإِطْلَاقُهُ) أَيْ الْمَحْبُوسِ أَوْ إذْنُهُ أَيْ: الْقَاضِي (وَلَوْ فِي قَضَاءِ دَيْنٍ وَفِي نَفَقَةٍ لِيَرْجِعَ) قَاضِي الدَّيْنِ وَالْمُنْفِقُ حُكْمٌ (وَإِذْنُهُ فِي وَضْعِ مِيزَابٍ وَوَضْعِ بِنَاءٍ) مِنْ جَنَاحٍ وَسَابَاطٍ بِدَرْبٍ نَافِذٍ بِلَا ضَرَرٍ حُكْمٌ، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ حُكْمًا (لِيَزُولَ الضَّمَانُ) بِمَا يُتْلِفُ مِنْ ذَلِكَ (وَإِذْنُهُ فِي وَضْعِ خَشَبَةٍ عَلَى حَائِطِ جَارِهِ) بِشَرْطٍ حُكْمٌ (وَأَمْرُهُ) أَيْ: الْقَاضِي (بِإِرَاقَةِ نَبِيذٍ) حُكْمٌ، ذَكَرَهُ فِي الْأَحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ فِي الْمُحْتَسَبِ (وَقُرْعَتُهُ حُكْمٌ يَرْفَعُ الْخِلَافَ) إنْ كَانَ ثَمَّ خِلَافٌ؛ لِصُدُورِهِ عَنْ رَأْيِهِ وَاجْتِهَادِهِ، كَمَا لَوْ صَرَّحَ بِالْحُكْمِ.
قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِي فَسْخِ النِّكَاحِ لِتَعَذُّرِ النَّفَقَةِ وَنَحْوِهَا الْحَاكِمُ لَيْسَ هُوَ الْفَاسِخُ، وَإِنَّمَا يَأْذَنُ أَوْ يَحْكُمُ بِهِ، فَمَتَى أَذِنَ أَوْ حَكَمَ لِأَحَدٍ بِاسْتِحْقَاقِ عَقْدٍ أَوْ فَسْخٍ لَمْ يَحْتَجْ بَعْدَ ذَلِكَ إلَى حُكْمٍ بِصِحَّتِهِ بِلَا نِزَاعٍ، لَكِنْ لَوْ عَقَدَ هُوَ أَوْ فَسَخَ فَهُوَ فِعْلُهُ، وَهَلْ فِعْلُهُ حُكْمٌ؟ فِيهِ الْخِلَافُ الْمَشْهُورُ.
فَائِدَةٌ:
فُتْيَا الْقَاضِي لَيْسَتْ حُكْمًا، فَلَوْ حَكَمَ غَيْرُهُ بِغَيْرِ مَا أَفْتَى لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ نَقْضًا لِحُكْمِهِ، وَلَا تَكُونُ فُتْيَا الْقَاضِي كَالْحُكْمِ إذْ لَا إلْزَامَ فِي الْفُتْيَا، وَلِهَذَا يَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ يُفْتِيَ الْحَاضِرَ وَالْغَائِبَ، بِخِلَافِ الْقَضَاءِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ عَلَى الْغَائِبِ إلَّا فِي مَوَاضِعَ مَخْصُوصَةٍ (وَكَذَا نَوْعُ مَنْ فَعَلَهُ) أَيْ: الْحَاكِمُ الَّذِي يَفْتَقِرُ إلَى نَظَرٍ وَاجْتِهَادٍ، وَيَسْتَفِيدُ بِوِلَايَاتِ الْحُكْمِ (بِخِلَافِ) فِعْلٍ لَمْ يَسْتَفِدْهُ كَبَيْعِ عَقَارِ نَفْسِهِ الْغَائِبِ أَوْ بَيْعٍ (عَلَى يَتِيمٍ) هُوَ أَيْ: الْحَاكِمُ وَصِيُّهُ أَوْ بِوَكَالَةٍ، كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ قُنْدُسٍ عَنْ شَيْخِ السَّلَامِيَّةِ، وَأَمَّا الْمُسْتَفَادُ بِطَرِيقِ الْوِلَايَةِ (كَتَزْوِيجِهِ يَتِيمَةً) لَا وَلِيَّ لَهَا بِإِذْنِهَا إذَا تَمَّ لَهَا تِسْعُ سِنِينَ (وَبَيْعِ مَالِ غَائِبٍ) وَشِرَاءِ عَيْنٍ غَائِبَةٍ فِي الصِّفَةِ لِقَضَاءِ دَيْنِ نَحْوِ غَائِبٍ وَمُمْتَنِعٍ (وَعَقْدِ نِكَاحٍ بِلَا وَلِيٍّ) حَيْثُ رَآهُ وَفَسْخِ لَعْنَةٍ وَعَيْبٍ؛ فَهُوَ حُكْمٌ يَرْفَعُ الْخِلَافَ إنْ كَانَ.
قَالَ فِي الْمُغْنِي وَغَيْرِهِ فِي بَيْعِ مَا فُتِحَ عَنْوَةً: إنْ بَاعَهُ الْإِمَامُ لِمَصْلَحَةٍ رَآهَا صَحَّ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْإِمَامِ كَحُكْمِ الْحَاكِمِ، وَفِيهِ أَيْضًا لَا شُفْعَةَ فِيهَا إلَّا أَنْ يَحْكُمَ بِبَيْعِهِ حَاكِمٌ أَوْ يَفْعَلُهُ الْإِمَامُ أَوْ نَائِبُهُ، وَفِيهِ أَيْضًا أَنَّ مَا فَعَلَهُ الْأَئِمَّةُ لَيْسَ لِأَحَدٍ نَقْضُهُ. انْتَهَى.
قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ الْقَضَاءُ نَوْعَانِ إخْبَارٌ وَهُوَ إظْهَارٌ، وَالثَّانِي ابْتِدَاءٌ وَأَمْرٌ وَهُوَ إنْشَاءٌ وَابْتِدَاءٌ، فَالْخَبَرُ يَدْخُلُ فِيهِ خَبَرُهُ عَنْ حُكْمِهِ وَعَنْ عَدَالَةِ الشُّهُودِ وَعَنْ الْإِقْرَارِ وَالشَّهَادَةِ، وَالْآخَرُ أَيْ: الْإِنْشَاءُ هُوَ حَقِيقَةُ الْحُكْمِ أَمْرٌ وَنَهْيٌ وَإِبَاحَةٌ، وَيَحْصُلُ الْحُكْمُ بِقَوْلِهِ: أَعْطِهِ وَلَا تُكَلِّمْهُ وَأَلْزِمْهُ، وَبِقَوْلِهِ حَكَمْتُ وَأَلْزَمْتُ.
قَالَ فِي شَرْحِ الْإِقْنَاعِ قُلْتُ: وَكُلُّ مَا أَدَّى هَذَا الْمَعْنَى. (وَحُكْمُهُ) أَيْ: الْقَاضِي (بِشَيْءٍ حُكْمٌ بِلَازِمِهِ) فَلَوْ حَكَمَ بِصِحَّةِ بَيْعِ عَبْدٍ أَعْتَقَهُ مَنْ أَحَاطَ الدَّيْنُ بِمَالِهِ؛ كَانَ حُكْمًا بِإِبْطَالِ الْعِتْقِ السَّابِقِ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ صِحَّةِ الْبَيْعِ بُطْلَانُ الْعِتْقِ. ذَكَرَهُ الْأَصْحَابُ فِي أَحْكَامِ الْمَفْقُودِ.
قَالَ فِي الِانْتِصَارِ فِي إعَادَةِ فَاسِقٍ شَهَادَتُهُ لَا تُقْبَلُ؛ لِأَنَّ رَدَّهُ لَهَا حُكْمٌ بِالرَّدِّ، فَقَبُولُهَا نَقْضٌ لَهُ؛ فَلَا يَجُوزُ، بِخِلَافِ صَبِيٍّ وَعَبْدٍ لِإِلْغَاءِ قَوْلِهِمَا. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رَدِّ عَبْدٍ: لِأَنَّ الْحُكْمَ قَدْ مَضَى، وَالْمُخَالَفَةُ فِي قَضِيَّةٍ وَاحِدَةٍ نَقْضٌ مَعَ الْعِلْمِ، وَأَمَّا إذَا ثَبَتَ شَيْءٌ عِنْدَ الْقَاضِي كَوَقْفٍ وَبَيْعٍ وَإِجَارَةٍ؛ فَثُبُوتُهُ لَيْسَ حُكْمًا بِهِ، بِخِلَافِ إثْبَاتِ صِفَةٍ كَعَدَالَةٍ وَأَهْلِيَّةِ وَصِيَّةٍ، فَهُوَ حُكْمٌ، وَكَذَا ثُبُوتُ سَبَبِ الْمُطَالَبَةِ كَفَرْضِهِ مَهْرَ مِثْلٍ أَوْ نَفَقَةً أَوْ أُجْرَةً كَمَا تَقَدَّمَ. (وَيُتَّجَهُ فَحُكْمُهُ) أَيْ الْقَاضِي (بِصِحَّةِ نِكَاحٍ بِلَا وَلِيٍّ) حَيْثُ رَآهُ (حُكْمٌ بِلَازِمِهِ) أَيْ: النِّكَاحِ (مِنْ نَفَقَةٍ وَكِسْوَةٍ وَمَهْرٍ) وَهَذَا مِمَّا لَا رَيْبَ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْقَوَاعِدَ تَقْتَضِيهِ (وَإِقْرَارُهُ) أَيْ: الْقَاضِي مُكَلِّفٌ غَيْرَهُ (عَلَى فِعْلٍ مُخْتَلِفٍ فِيهِ) كَتَزْوِيجٍ بِلَا وَلِيٍّ فُعِلَ بِحَضْرَتِهِ، أَوْ بَلَغَهُ وَسَكَتَ لَيْسَ حُكْمًا بِصِحَّتِهِ أَوْ حِلِّهِ إذْ الْإِقْرَارُ عَدَمُ التَّعَرُّضِ لَهُ (وَبِثُبُوتِ شَيْءٍ عِنْدَهُ) أَيْ: الْقَاضِي كَوَقْفٍ وَبَيْعٍ وَإِجَارَةٍ (لَيْسَ حُكْمًا بِهِ).

.فَصْلٌ: [ما يَتَضَمَّنُهُ تَنْفِيذُ الْحُكْمِ]:

(وَتَنْفِيذُ الْحُكْمِ يَتَضَمَّنُ الْحُكْمَ بِصِحَّةِ الْحُكْمِ الْمُنَفَّذِ) قَالَ ابْنُ نَصْرِ اللَّهِ: لَا أَنَّهُ أَيْ: التَّنْفِيذُ (حُكْمٌ) بِالْمَحْكُومِ بِهِ (إذْ الْحُكْمُ بِالْمَحْكُومِ بِهِ تَحْصِيلٌ لِلْحَاصِلِ، وَفِي كَلَامِ الْأَصْحَابِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ) أَيْ: التَّنْفِيذُ (حُكْمٌ) أَيْ: إذَا كَانَ التَّرَافُعُ عَنْ خُصُومَةٍ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ كَلَامُ الشَّرْحِ وَشَرْحُ الْمُحَرَّرِ (لِأَنَّ الْحَادِثَةَ) الشَّخْصِيَّةَ الْوَاحِدَةَ (يَجُوزُ شَرْعًا تَوَارُدُ أَحْكَامٍ مُتَعَدِّدَةٍ) مُتَّفِقَةٍ فِي الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ (عَلَيْهَا) وَالتَّنْفِيذُ الْمُتَعَارَفُ الْآنَ الْمُسْتَعْمَلُ غَالِبًا مَعْنَاهُ إحَاطَةُ الْقَاضِي عِلْمًا بِحُكْمِ الْقَاضِي الْأَوَّلِ عَلَى وَجْهِ التَّسْلِيمِ، وَأَنَّهُ غَيْرُ مُعْتَرَضٍ عِنْدَهُ، وَيُسَمَّى اتِّصَالًا وَيَتَجَوَّزُ بِذِكْرِ الثُّبُوتِ وَالتَّنْفِيذِ فِيهِ. ذَكَرَهُ ابْنُ الْفَرَسِ الْحَنَفِيُّ (وَفِي كَلَامِ بَعْضِهِمْ) أَيْ: الْأَصْحَابِ (أَنَّهُ) أَيْ: التَّنْفِيذُ (عَمَلٌ بِالْحُكْمِ) الْمُنَفَّذِ (وَإِجَازَةٌ لَهُ وَإِمْضَاءٌ كَتَنْفِيذِ) الْوَارِثِ (الْوَصِيَّةَ) حَيْثُ تَوَقَّفَتْ عَلَى الْإِجَازَةِ، وَعُلِمَ مِنْهُ أَنَّ التَّنْفِيذَ لَيْسَ بِحُكْمٍ؛ لِمَا تَقَدَّمَ، وَلِأَنَّ الْحُكْمَ الْمَحْكُومَ بِهِ تَحْصِيلُ الْحَاصِلِ، وَهُوَ مُحَالٌ، وَإِنَّمَا هُوَ عَمَلٌ بِالْحُكْمِ وَإِمْضَاءٌ لَهُ كَتَنْفِيذِ الْوَصِيَّةِ وَإِجَازَةٌ لَهُ، فَكَأَنَّهُ يُجِيزُ هَذَا الْمَحْكُومَ بِهِ بِعَيْنِهِ،- لِحُرْمَةِ الْحُكْمِ، وَإِنْ كَانَ حَبْسُ ذَلِكَ الْمَحْكُومِ بِهِ غَيْرَهُ، وَمَعْنَى التَّنْفِيذِ الْمَذْكُورِ أَنْ يَحْصُلَ مِنْ الْخَصْمِ مُنَازَعَةٌ عِنْدَ قَاضٍ آخَرَ وَيُرْفَعُ إلَيْهِ حُكْمُ الْأَوَّلِ، فَيُمْضِيهِ وَيُنْفِذُهُ، وَيَلْزَمُهُ الْعَمَلُ بِمُقْتَضَاهُ. (وَالْحُكْمُ بِالصِّحَّةِ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ يَسْتَلْزِمُ ثُبُوتَ الْحُكْمِ وَالْحِيَازَةِ قَطْعًا) فَمَنْ ادَّعَى أَنَّهُ ابْتَاعَ مِنْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَيْنًا، وَاعْتَرَفَ لَهُ بِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ لِلْحَاكِمِ الْحُكْمُ بِصِحَّةِ الْبَيْعِ بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ حَتَّى يَدَّعِيَ الْمُدَّعِي أَنَّهُ بَاعَهُ الْعَيْنَ الْمَذْكُورَةَ وَهُوَ مَالِكٌ أَوْ مَأْذُونٌ لَهُ، وَيُقِيمُ الْبَيِّنَةَ بِذَلِكَ، فَأَمَّا لَوْ اعْتَرَفَ لَهُ الْبَائِعُ بِذَلِكَ فَلَا يَكْفِي فِي جَوَازِ الْحُكْمِ بِالصِّحَّةِ؛ لِأَنَّ اعْتِرَافَهُ يَقْتَضِي ادِّعَاءَهُ مِلْكَ الْعَيْنِ الْمَبِيعَةِ وَقْتَ الْبَيْعِ، وَلَا يَثْبُتُ ذَلِكَ بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهُ، فَلَا بُدَّ مِنْ بَيِّنَةٍ تَشْهَدُ بِمِلْكِهِ وَحِيَازَتِهِ حَالَةَ الْبَيْعِ حَتَّى يُسَوَّغَ لِلْحَاكِمِ الْحُكْمُ بِالصِّحَّةِ. (وَالْحُكْمُ بِالْمُوجَبِ- بِفَتْحِ الْجِيمِ- حُكْمٌ بِمُوجَبِ الدَّعْوَى الثَّابِتَةِ بَيِّنَتُهُ أَوْ غَيْرِهَا) أَيْ: بِمَا تَرَتَّبَ عَلَى الدَّعْوَةِ الثَّابِتَةِ بِذَلِكَ (كَ: بِإِقْرَارٍ) وَنُكُولٍ؛ لِأَنَّ مُوجَبَ الشَّيْءِ هُوَ أَثَرُهُ الَّذِي تَرَتَّبَ عَلَيْهِ (فَالدَّعْوَى الْمُشْتَمِلَةُ عَلَى مَا يَقْتَضِي صِحَّةَ الْعَقْدِ الْمُدَّعَى بِهِ) مِنْ بَيْعٍ أَوْ نِكَاحٍ أَوْ غَيْرِهِمَا (الْحُكْمُ فِيهَا بِالْمُوجَبِ حُكْمٌ بِالصِّحَّةِ) لِأَنَّ الصِّحَّةَ مِنْ مُوجَبِهِ كَسَائِرِ آثَارِهِ.
قَالَ الْوَلِيُّ الْعِرَاقِيُّ: فَيَكُونُ الْحُكْمُ بِالْمُوجَبِ حِينَئِذٍ أَقْوَى مُطْلَقًا لِسِعَتِهِ وَتَنَاوُلِهِ الصِّحَّةَ.
(وَ) آثَارُهَا وَالدَّعْوَى (غَيْرُ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى ذَلِكَ) أَيْ: مَا يَقْتَضِي صِحَّةَ الْعَقْدِ الْمُدَّعَى بِهِ كَأَنْ ادَّعَى أَنَّهُ بَاعَهُ الْعَيْنَ فَقَطْ (الْحُكْمُ فِيهَا بِالْمُوجَبِ لَيْسَ حُكْمًا بِهَا) أَيْ: الصِّحَّةِ، إذْ مُوجَبُ الدَّعْوَى حِينَئِذٍ حُصُولُ صُورَةِ بَيْعٍ بَيْنَهُمَا، وَلَمْ تَشْتَمِلْ الدَّعْوَى عَلَى مَا يَقْتَضِي صِحَّتَهُ حَيْثُ لَمْ يَذْكُرْ أَنَّ الْعَيْنَ كَانَتْ لِلْبَائِعِ مِلْكًا؛ وَلَمْ تَقُمْ بِهِ بَيِّنَتُهُ وَصِحَّةُ الْعَقْدِ يَتَوَقَّفُ عَلَى ذَلِكَ بِخِلَافِ مَا سَبَقَ. لَا يُقَالُ هُوَ أَيْضًا فِي الْأُولَى لَمْ يَدَعْ الصِّحَّةَ فَكَيْفَ يُحْكَمُ لَهُ بِهَا؟ لِأَنَّ دَعْوَاهَا وَإِنْ لَمْ تَكُنْ صَرِيحَةً فَهِيَ وَاقِعَةٌ ضِمْنًا؛ لِأَنَّهَا مَقْصُودُ الْمُشْتَرِي (وَقَالَ التَّقِيُّ السُّبْكِيُّ) وَتَبِعَهُ ابْنُ قُنْدُسٍ (الْحُكْمُ بِالْمُوجَبِ يَسْتَدْعِي صِحَّةَ الصِّيغَةِ) أَيْ: الْإِيجَابَ وَالْقَبُولَ قَوْلَيْنِ كَانَا أَوْ فِعْلَيْنِ أَوْ صِيغَةَ الْوَقْفِ أَوْ الْعِتْقِ كَذَلِكَ (وَأَهْلِيَّةَ التَّصَرُّفِ) مِنْ بَائِعٍ وَوَاقِفٍ وَنَحْوِهِمَا (وَيَزِيدُ الْحُكْمُ بِالصِّحَّةِ كَوْنُ تَصَرُّفِهِ فِي مَحَلِّهِ) بِأَنْ يَكُونَ تَصَرُّفُهُ فِيمَا يَمْلِكُهُ وَلَا مَانِعَ مِنْهُ.
(وَقَالَ السُّبْكِيُّ أَيْضًا، الْحُكْمُ بِالْمُوجَبِ هُوَ الْأَثَرُ) أَيْ: الْحُكْمُ بِالْأَثَرِ (الَّذِي يُوجِبُهُ اللَّفْظُ) أَيْ: يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ صِيغَةُ الْعَاقِدِ (وَالْحُكْمُ بِالصِّحَّةِ كَوْنُ اللَّفْظِ) أَيْ: الصِّيغَةِ (بِحَيْثُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْأَثَرُ) مِنْ انْتِقَالِ الْمِلْكِ وَنَحْوِهِ؛ فَالْحُكْمُ بِالْمُوجَبِ حُكْمٌ عَلَى الْعَاقِدِ بِمُقْتَضَى عَقْدِهِ، لَا حُكْمٌ بِالْعَقْدِ، بِخِلَافِ الْحُكْمِ بِالصِّحَّةِ، وَهُمَا أَيْ: الْحُكْمُ بِالصِّحَّةِ وَالْحُكْمُ بِالْمُوجَبِ (مُخْتَلِفَانِ فَلَا يُحْكَمُ بِالصِّحَّةِ إلَّا بِاجْتِمَاعِ الشُّرُوطِ) أَيْ: شُرُوطِ الْعَقْدِ الْمَحْكُومِ بِصِحَّتِهِ، وَإِنْ لَمْ تَجْتَمِعْ فَهُوَ حُكْمٌ بِالْمُوجَبِ (وَالْحُكْمُ بِالْإِقْرَارِ) وَنَحْوِهِ كَالنُّكُولِ (كَالْحُكْمِ بِمُوجَبِهِ) إذْ مَعْنَاهُ إلْزَامُ الْمُقِرِّ بِمَا أَقَرَّ بِهِ، وَهُوَ أَثَرُ إقْرَارِهِ وَلَا يُحْكَمُ بِالصِّحَّةِ. نَقَلَهُ الْوَلِيُّ الْعِرَاقِيُّ عَنْ شَيْخِهِ الْبُلْقِينِيِّ، وَقَالَ: وَلَا يَظْهَرُ لِهَذَا مَعْنًى، فَلْيُتَأَمَّلْ. وَقَدْ رَجَعَ الشَّيْخُ إلَى مَا ذُكِرَ أَوَّلًا مِنْ أَنَّ الْحُكْمَ بِالْمُوجَبِ يَتَضَمَّنُ الْحُكْمَ بِالصِّحَّةِ (وَالْحُكْمُ بِالْمُوجَبِ لَا يَشْمَلُ الْفَسَادَ انْتَهَى) هَذَا رَدٌّ لِقَوْلِ الْقَائِلِ إنَّ الْحُكْمَ بِالْمُوجَبِ لَا فَائِدَةَ لَهُ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ حَكَمْتُ بِصِحَّتِهِ إنْ كَانَ صَحِيحًا، وَبِفَسَادِهِ إنْ كَانَ فَاسِدًا، فَهُوَ تَحْصِيلٌ لِلْحَاصِلِ، وَحَاصِلُ الْجَوَابِ أَنَّ مُوجَبَهُ هِيَ آثَارُهُ الَّتِي تَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ وَالْفَسَادُ لَيْسَ مِنْهَا؛ فَلَا يَشْمَلُهُ الْحُكْمُ بِالْمُوجَبِ (قَالَ الْمُنَقَّحُ: وَالْعَمَلُ عَلَى ذَلِكَ، وَقَالُوا أَيْ:) الْأَصْحَابُ (الْحُكْمُ بِالْمُوجَبِ يَرْفَعُ الْخِلَافَ) لِأَنَّهُ حُكْمٌ عَلَى الْعَاقِدِ بِمُقْتَضَى مَا ثَبَتَ عَلَيْهِ مِنْ الْعَقْدِ، فَلَوْ وَقَفَ عَلَى نَفْسِهِ، وَحَكَمَ بِمُوجَبِهِ مَنْ يَرَاهُ؛ فَلَيْسَ لِلشَّافِعِيِّ سَمَاعُ دَعْوَى الْوَاقِفِ فِي إبْطَالِ الْوَقْفِ بِمُقْتَضَى مَا ثَبَتَ كَوْنُهُ وَقْفًا عَلَى النَّفْسِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ مُوجَبُهُ؛ لِعَدَمِ صِحَّةِ الْوَقْفِ، كَكَوْنِ الْمَوْقُوفِ مَرْهُونًا. (وَتَلْخِيصُهُ) أَيْ: مَا ذُكِرَ (عَلَى مَا أَفَادَهُ) الْوَلِيُّ الْعِرَاقِيُّ وَشَيْخُهُ الْبُلْقِينِيُّ أَنَّهُ إنْ قَامَتْ بَيِّنَةٌ عَادِلَةٌ بِاسْتِيفَاءِ شُرُوطِ عَقْدٍ يُرَادُ الْحُكْمُ بِهِ؛ (حُكِمَ بِصِحَّتِهِ، وَإِلَّا) تَقُمْ بَيِّنَةٌ بِاسْتِيفَاءِ الشُّرُوطِ (حُكِمَ بِمُوجَبِهِ) كَمَا تَقَدَّمَ، إذَا تَقَرَّرَ هَذَا؛ فَالْحُكْمُ (بِالْمُوجَبِ) عِنْدَهُمَا (أَحَطُّ رُتْبَةً) مِنْ الْحُكْمِ بِالصِّحَّةِ. (وَقَدْ يَسْتَوِيَانِ) أَيْ: الْحُكْمُ بِالْمُوجَبِ وَالْحُكْمُ بِالصِّحَّةِ (فِي مَسَائِلَ كَحُكْمِ حَنَفِيٍّ بِصِحَّةِ نِكَاحٍ بِلَا وَلِيٍّ أَوْ بِمُوجَبِهِ أَوْ بِشُفْعَةِ جَارٍ أَوْ وَقْفٍ عَلَى نَفْسٍ؛ فَلَيْسَ لِلشَّافِعِيِّ نَقْضُهُ) سَوَاءٌ حَكَمَ بِصِحَّةِ ذَلِكَ أَوْ بِمُوجَبِهِ (وَكَحُكْمِ شَافِعِيٍّ بِصِحَّةِ أَوْ مُوجَبِ إجَارَةِ) جُزْءٍ مُشَاعٍ مِنْ دَارٍ أَوْ عَبْدٍ أَوْ نَحْوِهِمَا (فَلَيْسَ لِلْحَنَفِيِّ نَقْضُهُ) سَوَاءٌ حَكَمَ بِالصِّحَّةِ أَوْ بِالْمُوجَبِ (وَقَدْ يَخْتَلِفَانِ) فِي مَسَائِلَ يَكُونُ فِي بَعْضِهَا الْحُكْمُ بِالْمُوجَبِ أَقْوَى، وَفِي بَعْضِهَا الْحُكْمُ بِالصِّحَّةِ أَقْوَى.
القسم الأَوَّلُ أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (كَحُكْمِ حَنَفِيٍّ بِصِحَّةِ تَدْبِيرٍ، فَيُسَوَّغُ لِلشَّافِعِيِّ الْحُكْمُ بِبَيْعِهِ؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ صَحِيحٌ، وَلَكِنْ يُبَاعُ، فَلَوْ حَكَمَ حَنَفِيٌّ بِمُوجَبِهِ)؛ أَيْ: التَّدْبِيرِ (لَمْ يَكُنْ لِلشَّافِعِيِّ الْحُكْمُ بِبَيْعِهِ؛ لِأَنَّ مِنْ مُوجَبِ التَّدْبِيرِ عِنْدَهُ عَدَمُ بَيْعِهِ، وَ) مِنْهُ أَيْضًا (لَوْ حَكَمَ شَافِعِيٌّ بِصِحَّةِ شِرَاءِ دَارٍ لَهَا جَارٌ؛ سَاغَ لِلْحَنَفِيِّ الْحُكْمُ بِالشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ عِنْدَهُ صَحِيحٌ مُسَلَّطٌ لِأَخْذِ الْجَارِ) كَمَا يَقُولُ الشَّافِعِيُّ فِي بَيْعِ أَحَدِ الشُّرَكَاءِ (وَلَوْ حَكَمَ الشَّافِعِيُّ بِمُوجَبِ الشِّرَاءِ) لِلدَّارِ الْمَذْكُورَةِ (لَمْ يَكُنْ لِلْحَنَفِيِّ الْحُكْمُ بِهَا) أَيْ: بِالشُّفْعَةِ لِلْجَارِ (لِأَنَّ مِنْ مُوجَبِهِ عِنْدَهُ) أَيْ: الشَّافِعِيِّ (دَوَامَهُ) أَيْ: دَوَامَ الْحُكْمِ (وَاسْتِمْرَارَهُ. وَالْقَضِيَّةُ الْمُخْتَلَفُ فِيهَا فَمَا كَانَ مِنْهَا قَدْ جَاءَ وَقْتُ الْحُكْمِ فِيهَا؛ نَفَذَ، وَمَا لَا) يَكُونُ قَدْ جَاءَ وَقْتُ الْحُكْمِ فِيهِ (فَلَا يَنْفُذُ، فَالْأَوَّلُ كَحُكْمِ حَنَفِيٍّ بِمُوجَبِ التَّدْبِيرِ بَعْدَ صُدُورِهِ؛ فَحُكْمُهُ بِهِ فِي وَقْتِهِ) بَعْدَ وُجُودِهِ (فَلَا يُسَوَّغُ نَقْضُهُ، وَصَارَ الْمُدَبَّرُ كَأُمِّ الْوَلَدِ) فِي الْحُكْمِ (وَالثَّانِي أَنْ يُعَلِّقَ شَخْصٌ طَلَاقَ أَجْنَبِيَّةٍ. بِتَزْوِيجِهَا؛ فَيَحْكُمُ مَالِكِيٌّ أَوْ حَنَفِيٌّ بِمُوجَبِهِ، فَإِذَا تَزَوَّجَ بِهَا، وَبَادَرَ شَافِعِيٌّ، وَحَكَمَ بِاسْتِمْرَارِ الْعِصْمَةِ؛ نَفَذَ حُكْمُهُ، وَلَمْ يَكُنْ) حُكْمُ الشَّافِعِيِّ (نَقْضًا لِلْحُكْمِ وَحُكْمِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ حُكْمَهُ) أَيْ الْحَنَفِيِّ وَالْمَالِكِيِّ بِمُوجَبِ تَعْلِيقِ طَلَاقِ امْرَأَةٍ مُعَيَّنَةٍ عَلَى التَّزْوِيجِ بِهَا قَبْلَ التَّزَوُّجِ بِهَا (لَمْ يَتَنَاوَلْ الطَّلَاقَ) وَلَا دَخَلَ فِي مُوجَبِ وُقُوعِهِ بَعْدَ التَّزَوُّجِ (لِأَنَّهُ أَيْ:) الطَّلَاقُ (أَمْرٌ لَمْ يَقَعْ) لِعَدَمِ مُصَادَفَتِهِ عِصْمَةً (حِينَ الْحُكْمِ) الصَّادِرِ مِنْ الْحَنَفِيِّ أَوْ الْمَالِكِيِّ، فَإِنَّ التَّزَوُّجَ إلَى الْآنَ لَمْ يَقَعْ، وَقَدْ لَا يُوجَدُ (فَكَيْفَ يُحْكَمُ عَلَى مَا لَمْ يَقَعْ) وَلَا يَدْرِي هَلْ يَقَعُ أَوْ لَا (فَمَا هَذَا الصَّادِرُ مِنْهُ) أَيْ: مِنْ ذَلِكَ الْحُكْمِ (إلَّا مُجَرَّدُ فَتْوَى لَا حُكْمَ)؛ إذْ لَوْ كَانَ حُكْمًا لَرُفِعَ الْخِلَافُ، وَامْتَنَعَ عَلَى مَنْ لَا يَرَاهُ نَقْضُهُ (وَتَسْمِيَتُهُ حُكْمًا إمَّا جَهْلٌ أَوْ تَجَوُّزٌ). انْتَهَى.
وَحَاصِلُ الْكَلَامِ أَنَّ الْحُكْمَ بِالْمُوجَبِ حُكْمٌ عَلَى الْعَاقِدِ بِمُقْتَضَى عَقْدِهِ، لَا حُكْمٌ بِالْعَقْدِ، وَتَقَدَّمَ، وَلَا يَخْفَى مَا بَيْنَهُمَا مِنْ التَّفَاوُتِ قَالَهُ ابْنُ نَصْرِ اللَّهِ، وَذَكَرَ الْغَزِّيِّ فُرُوقًا بَيْنَ الْحُكْمِ بِالصِّحَّةِ وَبَيْنَ الْحُكْمِ بِالْمُوجَبِ مِنْهَا مَا سَبَقَ، وَمِنْهَا أَنَّ كُلَّ دَعْوَى كَانَ الْمَطْلُوبُ فِيهَا إلْزَامُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِمَا يَثْبُتُ عَلَيْهِ الْحُكْمُ فِيهَا بِالْإِلْزَامِ هُوَ الْحُكْمُ بِالْمُوجَبِ، وَلَا يَكُونُ بِالصِّحَّةِ، لَكِنْ يَتَضَمَّنُ الْحُكْمُ بِالْمُوجَبِ الْحُكْمَ بِالصِّحَّةِ، إقْرَارًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ، وَمِنْهَا الْحُكْمُ بِالصِّحَّةِ، وَمِنْهَا أَنَّ الْحُكْمَ يَتَضَمَّنُ أَشْيَاءَ لَا يَتَضَمَّنُهَا الْحُكْمُ بِالصِّحَّةِ؛ فَلَوْ حَكَمَ بِصِحَّةِ عَقْدِ الْبَيْعِ لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ إثْبَاتَ خِيَارِ الْمَجْلِسِ، وَلَا فَسْخَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا، وَلَوْ حَكَمَ بِمُوجَبِهِ وَالْإِلْزَامِ بِمُقْتَضَاهُ؛ امْتَنَعَ التَّمَكُّنُ مِنْ الْفَسْخِ. انْتَهَى.
وَقَدْ صَنَّفَ الشَّيْخُ وَلِيُّ الدِّينِ الْعِرَاقِيُّ الشَّافِعِيُّ وُرَيْقَاتٍ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْحُكْمِ بِالصِّحَّةِ وَالْحُكْمِ بِالْمُوجَبِ، وَأَوْرَدَهَا الْفَتُوحِيُّ فِي شَرْحِهِ لِلْمُنْتَهَى، وَهِيَ نَافِعَةٌ جَيِّدَةٌ مُوضِحَةٌ لِمَا سَبَقَ. فَصْلٌ ثُمَّ رَجَعَ الْمُصَنِّفُ إلَى أَمْرِ الْمَحَابِيسِ فَقَالَ (وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْ خَصْمُهُ، وَأَنْكَرَهُ) الْمَحْبُوسُ بِأَنْ قَالَ: حُبِسْت ظُلْمًا وَلَا حَقَّ عَلَيَّ وَلَا خَصْمَ لِي (نُودِيَ بِذَلِكَ) فِي الْبَلَدِ.
قَالَ فِي الْمُقْنِعِ وَمَنْ تَبِعَهُ: ثَلَاثًا، وَلَمْ يَذْكُرْهُ فِي الْمُحَرَّرِ وَالْفُرُوعِ وَغَيْرِهِمَا، وَلَعَلَّ التَّقَيُّدَ بِالثَّلَاثِ أَنَّهُ يَشْتَهِرُ بِذَلِكَ وَيَظْهَرُ الْغَرِيمُ إنْ كَانَ غَائِبًا، وَمَنْ لَمْ يُقَيِّدْ فَمُرَادُهُ أَنْ يُنَادَى عَلَيْهِ حَتَّى يَغْلِبَ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ غَرِيمٌ، وَيَحْصُلُ ذَلِكَ غَالِبًا فِي ثَلَاثٍ، فَالْمَعْنَى فِي الْحَقِيقَةِ وَاحِدٌ كَمَا أَفَادَهُ فِي الْإِنْصَافِ (فَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ) خَصْمَهُ بَعْدَ ذَلِكَ (حَلَّفَهُ) أَيْ: الْمَحْبُوسَ حَاكِمٌ (وَخَلَّاهُ) أَيْ: أَطْلَقَهُ؛ إذْ الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ خَصْمٌ لَظَهَرَ (وَمَعَ غَيْبَةِ خَصْمِهِ) الْمَعْرُوفِ (يَبْعَثُ إلَيْهِ) لَيَحْضُرَ لِلْبَحْثِ عَنْ أَمْرِ الْمَحْبُوسِ (وَمَعَ تَأَخُّرِهِ بِلَا عُذْرٍ) يُخَلِّي سَبِيلَهُ (وَالْأَوْلَى) أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ (بِكَفِيلٍ) احْتِيَاطًا.
قَالَ الْبُهُوتِيُّ: قُلْتُ: وَلَعَلَّهُ إنْ لَمْ يَكُنْ حَبَسَهُ بِدَيْنٍ شَرْعِيٍّ، وَإِلَّا لَمْ يَجُزْ إطْلَاقُهُ إلَّا إذَا أَدَّى أَوْ ثَبَتَ إعْسَارُهُ، كَمَا فِي بَابِ الْحَجْرِ. ثُمَّ إذَا تَمَّ أَمْرُ الْمَحْبُوسِينَ (يَنْظُرُ فِي أَمْرِ أَيْتَامٍ وَمَجَانِينَ وَوُقُوفٍ وَوَصَايَا لَا وَلِيَّ لَهُمْ) أَيْ: الْأَيْتَامِ وَالْمَجَانِينَ (وَلَا نَاظِرَ) لِلْوُقُوفِ وَالْوَصَايَا، لِأَنَّ هَذِهِ أَمْوَالٌ يَتَعَلَّقُ بِهَا حِفْظُهَا وَصَرْفُهَا فِي وُجُوهِهَا؛ فَلَا يَجُوزُ إهْمَالُهَا، وَلَا نَظَرَ لَهُ مَعَ الْوَلِيِّ وَالنَّاظِرِ الْخَاصِّ، لَكِنْ لَهُ الِاعْتِرَاضُ إنْ فَعَلَ مَا لَا يَسُوغُ (فَلَوْ نَفَّذَ) الْقَاضِي (الْأَوَّلُ وَصِيَّةَ مُوصًى إلَيْهِ أَمْضَاهَا) الْقَاضِي (الثَّانِي) لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْأَوَّلَ لَمْ يُنَفِّذْهَا إلَّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ أَهْلِيَّتِهِ، وَيُرَاعِيهِ، فَإِنْ تَغَيَّرَتْ حَالُهُ بِفِسْقٍ أَوْ ضَعْفٍ ضَمَّ إلَيْهِ قَوِيًّا أَمِينًا يُعِينُهُ، وَإِنْ لَمْ يُنَفِّذْ الْأَوَّلُ وَصِيَّتَهُ نَظَرَ الثَّانِي فِيهِ، فَإِنْ كَانَ قَوِيًّا أَمِينًا أَقَرَّهُ، وَإِنْ كَانَ أَمِينًا ضَعِيفًا ضَمَّ إلَيْهِ قَوِيًّا أَمِينًا، وَإِنْ كَانَ قَدْ تَصَرَّفَ أَوْ فَرَّقَ الْوَصِيَّةَ وَهُوَ أَهْلٌ لِلْوَصِيَّةِ، نَفَذَ تَصَرُّفُهُ، وَإِنْ كَانَ لَيْسَ بِأَهْلٍ وَالْمُوصَى إلَيْهِمْ بَالِغِينَ عَاقِلِينَ مُعَيَّنِينَ؛ صَحَّ دَفْعُهُ إلَيْهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ قَبَضُوا حُقُوقَهُمْ (فَدَلَّ) وُجُوبُ إمْضَاءِ الثَّانِي مَا نَفَّذَهُ الْأَوَّلُ مِنْ الْوَصَايَا (أَنَّ إثْبَاتَ) حَاكِمٍ (صِفَةً كَعَدَالَةِ وَجَرْحِ وَأَهْلِيَّةِ مُوصًى إلَيْهِ وَنَحْوِهِ) كَأَهْلِيَّةِ نَاظِرِ وَقْفٍ وَحَضَانَةٍ (حُكْمٌ يَقْبَلُهُ حَاكِمٌ آخَرُ) فَيُمْضِيهِ، وَلَا يَنْقُضُهُ مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ الْحَالُ. (وَمَنْ كَانَ مِنْ أُمَنَاءِ الْحَاكِمِ لِلْأَطْفَالِ أَوْ الْوَصَايَا الَّتِي لَا وَصِيَّ لَهَا وَنَحْوَهُ) كَنُظَّارِ أَوْقَافٍ لَا شُرُوطَ فِيهَا (بِحَالِهِ أَقَرَّهُ) لِأَنَّ تَفْوِيضَهُ إلَيْهِ كَحُكْمِهِ؛ فَلَيْسُوا كَنُوَّابِهِ فِي الْحُكْمِ. (وَمَنْ فَسَقَ مِنْهُمْ عَزَلَهُ) لِعَدَمِ أَهْلِيَّتِهِ (وَيَضُمُّ إلَى ضَعِيفٍ) قَوِيًّا (أَمِينًا) لِيُعِينَهُ (وَلَهُ إبْدَالُهُ) لِعَدَمِ حُصُولِ الْغَرَضِ بِهِ (وَلَهُ النَّظَرُ فِي حَالِ قَاضٍ قَبْلَهُ، وَلَا يَجِبُ) عَلَيْهِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ صِحَّةُ أَحْكَامِهِ. (وَيَحْرُمُ أَنْ يَنْقُضَ حُكْمًا مِنْ أَحْكَامِ) قَاضٍ (صَالِحٍ لِلْقَضَاءِ) لِئَلَّا يُؤَدِّيَ إلَى نَقْضِ الْحُكْمِ بِمِثْلِهِ؛ وَإِلَى أَنْ لَا يَثْبُتَ حُكْمٌ أَصْلًا (غَيْرَ مَا) أَيْ: حُكْمٍ (خَالَفَ نَصَّ كِتَابِ اللَّهِ) تَعَالَى أَوْ خَالَفَ نَصَّ (سُنَّةٍ مُتَوَاتِرَةٍ، أَوْ) خَالَفَ (آحَادًا) أَيْ: نَصَّ سُنَّةِ آحَادٍ كَالْحُكْمِ (بِقَتْلِ مُسْلِمٍ بِكَافِرٍ وَحُرٍّ بِقِنٍّ) فَيَلْزَمُ نَقْضُهُ نَصًّا، وَكَذَا (جَعْلُ مَنْ وَجَدَ عَيْنَ مَالِهِ، عِنْدَ مَنْ حُجِرَ عَلَيْهِ أُسْوَةً بِالْغُرَمَاءِ) فَيُنْقَضُ نَصًّا؛ لِأَنَّهُ قَضَاءٌ لَمْ يُصَادِفْ شَرْطَهُ إذْ شَرْطُ الِاجْتِهَادِ عَدَمُ النَّصِّ؛ لِخَبَرِ مُعَاذٍ، وَلِأَنَّهُ مُفَرِّطٌ (أَوْ) خَالَفَ (إجْمَاعًا قَطْعِيًّا) فَيُنْقَضُ؛ لِأَنَّ الْمُجْمَعَ عَلَيْهِ لَيْسَ مَحَلًّا لِلِاجْتِهَادِ، بِخِلَافِ الْإِجْمَاعِ السُّكُوتِيِّ، أَوْ كَانَ مُجْتَهِدًا، أَوْ حَكَمَ (بِخِلَافِ مَا يَعْتَقِدُ) صِحَّتَهُ وِفَاقًا لِلْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، وَحَكَاهُ الْقَرَافِيُّ (إجْمَاعًا، فَيَلْزَمُ نَقْضُهُ) لِاعْتِقَادِهِ بُطْلَانَهُ، وَيَأْثَمُ وَيَعْصِي بِذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاك اللَّهُ} فَإِنْ اعْتَقَدَهُ صَحِيحًا وَقْتَ الْحُكْمِ، ثُمَّ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ- وَلَا نَصَّ وَلَا إجْمَاعَ- لَمْ يُنْقَضْ؛ لِقَضَاءِ عُمَرَ فِي الْمُشَرَّكَةِ حَيْثُ أَسْقَطَ الْإِخْوَةَ لِلْأَبَوَيْنِ ثُمَّ شَرَكَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْإِخْوَةِ لِلْأُمِّ بَعْدُ، وَقَالَ: تِلْكَ عَلَى مَا قَضَيْنَا، وَهَذِهِ عَلَى مَا نَقْضِي، وَقَضَى بِإِرْثِ الْجَدِّ بِقَضَايَا مُخْتَلِفَةٍ، وَلِئَلَّا يُؤَدِّيَ إلَى نَقْضِ الِاجْتِهَادِ بِمِثْلِهِ، وَإِنْ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ قَبْلَ الْحُكْمِ عَمَلَ بِالْأَخِيرِ؛ لِاعْتِقَادِهِ بُطْلَانَ مَا قَبْلَهُ. (وَلَا يُنْقَضُ حُكْمٌ بِتَزْوِيجِهَا) أَيْ: الْمَرْأَةِ (نَفْسَهَا) وَلَوْ مَعَ حُضُورِ وَلِيِّهَا؛ لِاخْتِلَافِ الْأَئِمَّةِ فِي صِحَّتِهِ، وَلَا يُنْقَضُ حُكْمٌ (لِمُخَالَفَةِ قِيَاسٍ) وَلَوْ كَانَ الْقِيَاسُ جَلِيًّا؛ لِأَنَّ مِنْ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ مَا وَرَدَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ (أَوْ) أَيْ: وَلَا يُنْقَضُ لِمُخَالَفَةِ (إجْمَاعٍ ظَنِّيٍّ وَلَا) يُنْقَضُ حُكْمُهُ (لِعَدَمِ عِلْمِهِ الْخِلَافَ فِي الْمَسْأَلَةِ خِلَافًا لِلْإِمَامِ مَالِكٍ) لِأَنَّ عِلْمَهُ بِالْخِلَافِ لَا أَثَرَ لَهُ فِي صِحَّةِ الْحُكْمِ وَلَا فِي بُطْلَانِهِ حَيْثُ وَافَقَ مُقْتَضَى الشَّرْعِ (أَوْ حَكَمَ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ) لَمْ يَنْتَقِضْ حُكْمُهُ. حَكَاهُ الْقَرَافِيُّ إجْمَاعًا، وَيَأْتِي «أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَضَى بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ فِي الْمَالِ» (أَوْ حَكَمَ بِبَيِّنَةِ خَارِجٍ) وَجَهِلَ عِلْمَهُ بِبَيِّنَةٍ تُقَابِلُهَا أَوْ حَكَمَ بِبَيِّنَةِ (دَاخِلٍ وَجَهِلَ عِلْمَهُ بِبَيِّنَةٍ تَقَابُلُهَا) حَيْثُ وَقَعَ الْحُكْمُ عَلَى وَفْقِ الشَّرْعِ (وَمَا قُلْنَا إنَّهُ يُنْقَضُ فَالنَّاقِضُ لَهُ حَاكِمٌ إنْ كَانَ) مَوْجُودًا (فَيَثْبُتُ) عِنْدَهُ السَّبَبُ الْمُقْتَضِي لِنَقْضِهِ (وَيُنْقِضُهُ) حَاكِمٌ دُونَ غَيْرِهِ، وَلَا يُعْتَبَرُ لِصِحَّةِ نَقْضِ طَلَبِ رَبِّ الْحَقِّ نَقَضَهُ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى فَيَنْقُضُهُ حَاكِمُهُ (إنْ بَانَ بِمَنْ شَهِدَ) عِنْدَهُ مَا (أَيْ) شَيْءٌ (لَا يُرَى) لِحَاكِمٍ (مِنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ) كَكَوْنِ الشَّاهِدِ مِنْ عَمُودَيْ نَسَبٍ مَشْهُودٍ لَهُ (وَكَذَا كُلُّ مَا صَادَفَ مَا حُكِمَ بِهِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ) صِفَةٌ لِمَا الْأُولَى؛ أَيْ: لَا يَرَى الْحَاكِمُ الْقَاضِي الْحُكْمَ مَعَهُ (وَلَوْ لَمْ يَعْلَمْهُ) قَاضٍ عِنْدَ حُكْمِهِ (كَبَيْعِ عَبْدٍ تَبَيَّنَ أَنَّهُ مَنْذُورٌ) عِتْقُهُ نَذْرَ تَبَرُّرٍ فَيَنْقُضُهُ إذَا ثَبَتَ عِنْدَهُ (وَتُنْقَضُ أَحْكَامٌ مَنْ) أَيْ: قَاضٍ (لَا يَصْلُحُ) لِلْحُكْمِ لِفَقْدِ بَعْضِ الشُّرُوطِ (وَإِنْ وَافَقَتْ الصَّوَابَ) لِأَنَّ حُكْمَهُ غَيْرُ صَحِيحٍ فَوُجُودُهُ كَعَدَمِهِ (خِلَافًا لِجَمْعٍ) وَهَذَا فِي غَيْرِ قُضَاةِ الضَّرُورَةِ، أَمَّا هُمْ فَلَا يُنْقَضُ مِنْ أَحْكَامِهِمْ مَا وَافَقَ الصَّوَابَ. اخْتَارَهُ الْمُوَفَّقُ وَابْنُ عَبْدُوسٍ فِي تَذْكِرَتِهِ وَالشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ وَغَيْرُهُمْ، وَجَزَمَ بِهِ فِي الْوَجِيزِ وَالْمُنَوِّرِ وَقَدَّمَهُ فِي التَّرْغِيبِ.
وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ وَأَبِي بَكْرٍ وَابْنِ عَقِيلٍ وَابْنِ الْبَنَّا حَيْثُ أَطْلَقُوا أَنْ لَا يُنْقَضَ مِنْ الْحُكْمِ إلَّا مَا خَالَفَ كِتَابًا أَوْ سُنَّةً أَوْ إجْمَاعًا.
قَالَ فِي الْإِنْصَافِ قُلْتُ: وَهُوَ الصَّوَابُ وَعَلَيْهِ عَمَلُ النَّاسِ مِنْ مُدَّةٍ، وَلَا يَسَعُ النَّاسَ غَيْرُهُ؛ لِأَنَّهَا وِلَايَةٌ شَرْعِيَّةٌ، وَإِلَّا لَتَعَطَّلَتْ الْأَحْكَامُ.